محمد محمودي کیا | خاص الناشر
لا شك أن الحرب هي أبشع مشهد واجهته البشریة عبر تاريخها؛ مواجهة دامية أدت أحيانًا إلى مقتل آلاف الأشخاص وخلفت الكثير من الدمار للأجيال القادمة، تارة لفتح البلاد، وتارة للنهب، وتارة لإشباع رغبة خفية في الروح. كتاب التاريخ مليء بأسماء المستبدين الذين قادوا الكثير من الأبرياء إلى مذبح رغباتهم النجسة والعديد من الأضواء التي انطفأت.
نعم! لن ينسى التاريخ أبدًا طغيان وغطرسة وقسوة مفكري الظالمین في ذلك العصر. وكم هي قائمة الجرائم التي ارتكبتها الأيدي النجسة للفراعنة ونيرون وكاليجولا وهتلر وغيرهم من هذه العشيرة المتعطشة للدماء. فكم هدموا من القصور وكم من الناس وقعوا ضحية لشهوات هؤلاء القساة القلوب التي لا تنتهي!
يبدو أن القصّة الحزينة للألم والمعاناة الإنسانية ليس لها نهاية. يمكن تصور أن التاريخ يجلس في دوامة التكرار ليواصل الكتابة عن الجرائم التي لا نهاية لها وقسوة الطغاة المتمردين المخمورين بالسلطة، ومن دماء الآلاف من النفوس المحترمة من الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا يجدون نصيبًا من هبة الحياة إلا غبار كثيف للموت.
وإذا كانت قراءة كتاب التاريخ حتّى الآن لم تقنعنا بعمق قسوة وظلام هذه النفوس القبيحة، فللأسف اليوم تُكتب سطور كتاب التاريخ أمامنا؛ ويكفي أن نفتح أعيننا ونرى أننا نشهد تكرار نفس الجرائم وتكرار نفس الفظائع؛ نيرون يجلس على عرشه من جديد وفرعون يعود إلى ضفاف النيل ليمسك بالأطفال الأبرياء!
نعم! لقد حان الوقت مرة أخرى لإحضار هابيل إلى مذبح قابیل وطغيانه؛ نعم! إن دماء الحسين (ع) تغلي من جديد من مسلخ كربلاء غزّة ولبنان.
في هذه الأيام، تُكتب سطور كتاب التاريخ ليس في غيابنا، بل أمام أعيننا، وما زلنا نفس المطالبين الصاخبين الذين، كما هو الحال دائمًا، ندين الموتى فقط. إننا تعلمنا أن نلوم الضحايا، فلماذا لم يصرخوا في قصر الظلم في عصرهم؟ لماذا لم يطلقوا النار على شمس حياة الظالم المشينة؟ ثمّ أدناهم بأنهم جروا أنفسهم إلى فخ العدم بأيديهم!
نعم! لقد تعلم البشر خطأً من كتب التاريخ أن دورهم في الوقت الحاضر هو فقط إدانة الظالمين، وأحيانًا ذرف
الدموع والتنهدات على الضحايا! لقد كانت الدموع كثيرة وصوت العزاء دائمًا عاليًا؛ وما فائدة الحزن الذي لا يقوي قامتك إلا أن يضيف حزنًا إلى آخر؟! أعتقد أن حزن البشرية اليوم يرجع إلى أن الناس لم يتعلموا قط درس المقاومة وفن الوقوف في صفحات التاريخ. فليتعلم درس الشجاعة ويحني رأسه إجلالًا للجهود العظيمة التي بذلها أساطير التاريخ المقاومين. إن هذا الإهمال الذي لا يغتفر لمسؤوليتنا تجاه التاريخ هو الذي جعله يعيد نفسه! وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا عاد طغاة التاريخ إلى الحياة وأطلقوا العنان لطوفان من الجرائم؟ فبأي ذنب يغرق مسلخ الأبرياء بالدماء من جديد؟! نعم! القصّة هي نفسها كما كانت؛ قسوة القاتل وإهمالنا!
وأعتقد أن ما يجري في غزّة ولبنان اليوم هو تذكير بتكرار الظلم الإنساني أمام عاصفة العزة وغطرسة فراعنة العصر! اليوم غزّة هي عاشوراء جدیدة! اليوم صوت مظلومیة الحسين یرفع من سماء وأرض غزّة! لبنان وغزّة اليوم هما الحدود بين عالم البراءة وعالم النجاسة، شياطين العصر، الکیان الإسرائیلي.
سكان التاريخ الصامتون والنائمون كانوا رواة تاريخ البشرية بالنسبة لنا اليوم، ونحن کتاب سطور كتاب تاريخ هذه الأزمنة للأجيال القادمة!
بالأمس، إذا كان الذين ناموا في التاريخ، عندما یسحبون الحسين (ع) إلى المذبح، يصرخون على الظالم، الآن لن تضع محكمة التاريخ طابع العار الساخن على جباههم، ولن تسمّى قصّة الكوفة وسوء نية الكوفي فصلًا في الكتاب من تاريخ البشرية.
واليوم جاء دورنا لنصرخ بوجودنا كما نرى أنه من المناسب أن يُروى في كتاب التاريخ. إن الإنسانية اليوم، بكلّ مهنة وعقيدة ومعتقد ودين، تجلس أمام حكم التاريخ. واليوم فإن الدفاع عن المظلومين في غزّة ولبنان هو دفاع عن الإنسانية المظلومة عبر التاريخ! اليوم، الدفاع عن الإنسانیة في غزّة هو دفاع عن كلّ تلك النفوس المحترمة التي تم جرها إلى هاوية العدم. واليوم، يعتبر الدفاع عن شعب غزّة الذي يعاني المعاناة بمثابة بلسم لجميع الجراح الإنسانية. اليوم هو الوقت المناسب لاختبار إنسانيتنا!
اليوم هو اليوم الذي يجب أن نتعلم فيه أنه على الرغم من أن الحرب مريرة ومدمرة، إلا أن هناك جانبًا آخر يستحق الثناء! الستار الآخر للحرب هو ملحمة مقاومة الرجال والنساء ذوي الإرادة الفولاذية! على الجانب الآخر من الحرب، هناك ملحمة الرجال والنساء الشجعان الذين بقوا بشكل غريب في الخنادق وضحوا بحياتهم ببطولة في الطريق إلى الهدف.
اليوم، بعد عام من الجريمة والدمار على يد العدوّ القاسي، الفرعون المجرم، ونيرون المتعطش للدماء في عصرنا، “إسرائيل” الغاصبة، في أرض فلسطين المقدسة، يبدو الضمير الإنساني أكثر من أي وقت مضى في التاريخ. لقد سئم وحشية الأرواح وظلم الظالمين. لقد وجد المجتمع البشري الآن تاريخه الحقيقي في محكمة الضمير المستيقظ، كما لو كان طبيعة نقية وهو يعلم أنه مخاطب بكلمات النبيّ الخاتم – صلى الله عليه وآله وسلم – قال ذلك الرجل العظيم: “يقول الله عز وجل: اشتد غضبي على مَن ظَلَمَ مَن لا يجد له ناصرًا غيري”.
اليوم هو يوم المقاومة المجيد ووقت تكريم المقاومين. اليوم هو وقتنا! واليوم أشرقت شمس الظلم على الشاطئ، وها هي جيوش الجهل والتعصب محاصرة في مستنقع الدماء في نهاية حياتهم المشينة! دعونا نحاول أن نروي أخبارنا غدًا بطريقة تجعل الجميع يقفون لاحترامنا ويقرأون كتاب تاريخنا بكلّ فخر وبصوت عالٍ.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.