أن تعادي المقاومة وأنت في أرض تتعرّض للعدوان يعني أنّك خائن لهذه الأرض وأهلها، غير مستحٍ بقباحة الخيانة، وغير آبه بمصير كلّ من حولك، مهما كانت طريقتك في التعبير عن هذا العداء، ومهما حاولت تنميقه وتزيينه بما في رأسك من أوهام ذات طابع ثقافي أو إيديولجي أو سياسي أو طائفي.
من المفهوم أن يعجز فردٌ أو جماعة عن القيام بواجب الدفاع عن الذات والأهل والأرض والعرض، ولكن من المستحيل فهم أولئك الذين يختارون بكامل وعيهم أن يعادوا من يبذلون الدم والأرواح في هذه الدرب إلا في إطار انغماسهم في فعل الخيانة. وقد تجد جهة ما أسبابًا تمنعها من الانخراط في العمل المقاوم فتقرّ بعجزها القتالي وتحاول التعويض عنه عبر التصدي للعدوان من على الخطوط الخلفية للمواجهة الإعلامية والثقافية، أو حتّى تصمت حياءً وخزيًا أمام سموّ ما تبذله المقاومة، أما أن يجد البعض في الحرب ميدانًا للتعبير عن العداء الصريح للمقاومة وأهلها، فهذا لا يمكن تصنيفه إلا كجريمة موصوفة تدعى في لغة القانون “خيانة عظمى”.
منذ اشتعال معركة طوفان الأقصى إلى اليوم، ونحن في كلّ يوم نسمع ونرى الأصوات والوجوه التي تجاهر بالعداء للمقاومة، بل وتستبسل في إسداء الخدمات المجانية للصهاينة عبر تولّي مهمّة إيجاد الأعذار لـ”إسرائيل” في عدوانها على غزّة ولبنان، وفي إدانة فعل التصدي والمواجهة التي تخوضها جبهة المقاومة من كلّ الساحات.
عشرة أشهر تقريبًا، تعرّفنا خلالها على مغمورين وموتورين وحاقدين ومنتفعين ومجهولي النسب السياسي والثقافي والأخلاقي، تتلقفهم محطات التلفزة والمواقع الإلكترونية المعادية للمقاومة، وتبث خطاباتهم السامّة الناضحة بكلّ مؤشرات التورّط في مستنقع الخيانة، بالإضافة طبعًا إلى الوجوه المعروفة التي قامت وتقوم بهذا الفعل منذ سنين، وأصبحت مشهورة به بحيث ارتبطت أسماؤها به وصارت بالنسبة إلى أهل المقاومة ابنًا ضلَّ ولن يعود، أو جارًا خان الجيرة والعشرة، أو شريكًا وجد في معسكر العدوّ من يدفع له أكثر ففضّ الشراكة ومشى.
وبين الأسماء والوجوه الجديدة وتلك العتيقة في كار الخيانة تنافس على لقب من يكشف عن حقدٍ أكبر وعن مقدرة أعلى على المساس بمقدّس اجتماعي وقيمي وإنساني اسمه المقاومة، حتّى بتنا نقول في كلّ مرّة يبلغ فيها أحدهم حضيضًا ما في وادي الخيانة، نتوقّع ما هو الحضيض التالي الذي سنتعرّف إليه ومن سيكون أول الواصلين إليه.
إعلاميون وناشطون مغمورون يعتمدون اليوم سلّم المجاهرة بالخيانة كي يبلغوا مرتبة الشهرة، ويعتمدون الأمر كوسيلة لتقديم أوراق اعتمادهم لدى من يشغّل الخونة. وتحت مسمى حرية التعبير نراهم يعبرون عن أقذر ما قد يستطيعه حيوان ناطق. وحين يواجههم عاقل بقبح ما يفعلون، يهرعون إلى زاوية “الضحية” ويبدأون معركة وهمية ضدّ “التخوين”. وهنا يصبح المشهد كوميديًا بامتياز: يمرّغ أحدهم نفسه في حقل قذارة ذات رائحة نفاثة ومعروفة، وحين يمرّ بقرب نظيف من الطبيعي أن يبدي الأخير اشمئزازه من الفوح النتن، فيبدأ الممرّغ القذر بالتباكي أو حتّى بالصراخ والشكوى: “يتهمني بالقذارة!” ويعجز عن فهم ألا داعي للاتهام والبحث عن أدلة، فالأمر مشهود، ولا تُخفى نتانة دلالاته.
ليسوا سوى خونة. حفنة من خونة من مختلف الرتب والالقاب والمناصب والوظائف والدرجات العلمية. خونة ولو ارتكبوا فعلهم هذا في أي دولة تتمتع بالحدّ الأدنى من سيادة القانون لامتلأت بهم السجون وعلقوا على المشانق. خونة وإن في ظرف تاريخي استطاعوا ممارسة فعل الخيانة دون حساب، فمحكمة الذاكرة والتاريخ ستحكم عليهم بالوصمة المؤبّدة، وسيحتقرهم إلى الأبد كلّ أهل الأرض، حتّى أولئك الذين عملوا في خدمتهم.
لا تغيّر الأزمنة أسماء الأفعال الشائنة وإن جمّلتها الماكينات الإعلامية العاملة على إشارات السفارات والهوى الغربي. لذلك، كلّ تلك الوجوه والأسماء ليس لها في سجلّ التاريخ سوى اسم واحد: الخونة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.