وأنت تخوض بعينيك غمار الصّور، قد تلسع قلبك وجوه الشّباب الذين ارتقوا على أرض الحبّ التي تُدعى بلغات أهل الأرض “الجنوب”، وبلغة العشّاق “عامِلة”. أمّا الوجوه المرصّعة بالشيبة البهية، فتنتزع من صدرِك نثار سجلّ حياتك كلّها، ويُخجلك سؤالك لنفسك عن عمرك في ما أفنيته! وبين صور الشّاب المحنّى بدمه وبتراب الأرض البهيّة، وصور الشائب المخضّب بسنين البذل والحكمة المتراكمة جرحًا بعد جرح، يحارُ القلب في ما يُبكيه، سوط الفراق الموجع أم الأسف على النّفس التي ما وجدت لنفسها طريقة تضاهي طرائقهم في العبور، ويحار في ما يُشعره بالحياء أكثر، عوائلهم الفاقدة الماضية في العطاء والرضا إلى أقصاه، أم وصاياهم التي يتخفّفون بها من أثقال الدنيا وتُثقل الدَّين في رقبتك.
وأنت تخوض بقلبك غمار حكاياتهم، تستوقفك تفاصيل كثيرة. بل كلّ تفصيل في حكاياتهم يصبح قصّة، “قصّة كبيرة”، تفوح بالعزّة، تنطق بالولاية، تترجم العشق بذلًا، والمواجع تسليمًا، والحزن ثورة. تقف عند ناصية ما يقول عنهم الرّفاق، تجد في كلّ كلمة عبرة، في كلّ مشهد درسًا، في كلّ ذاكرة طريقًا، وفي كلّ غصّة مطرًا من دموع.
تسلب قلبك وجوه أمّهاتهم المغمورة بالحمد وبالرّضا، الحييّة خلف خمار السّكينة وقد طرّزنها بالصبر العظيم.
يصفعُ يومياتك صوت آبائهم وهم يتلون العزّة من شفاه جرحهم الأجمل، وهل من جرح يفوق جرح الأبوّة عمقًا وهي تواري في التراب جثمان الابن أو بعض أشلائه؟
تصل إلى حياء زوجاتهم المحنّى بحفظ العهود، وإكمال الدّرب، وبُحّة الفقد في الكلمات الصابرة المحتسبة. وما إن تبلغ أعتاب أيتامهم، ترى روحك وهي ترتمي عند أقدام هذا النبل الموروث، وهذا الفقد الذي يقيّد عنقك إلى دَين ليس يُوفى، وإلى ألم ليس يُحكى.
وأنت تحاول أن تتعلّم من سِيرهم ما يُشفيك من أوهام الدنيا، وما يرفع عن كتفك ثقل الاهتمام بما ليس يُجدي، ستجد في كلّ ما فيهم ألف درس لا يمكن فهمه إلّا بقلب مطهّر وبصيرة محكمة ويقين زلال. سيذهلك أسلوبهم في محادثة الناس، كلّ الناس، وطريقتهم في إحياء كلّ الشعائر الثورية، ولكنتهم في نطق أسماء من سبقهم، ودمعتهم في المجالس، وضحكتهم إذا فرحوا، وحياؤهم المجبول بالرفض إذا امتُدحوا. وستختنق حبًّا في فوح الحبق الغامر أصواتهم، وفي التماعات الشوق إلى البذل أكثر في أعينهم التي لا تبصر كلّ ما قد تقدّمه لهم الدنيا.
وأنت تغوض أكثر في أسمائهم التي تتولّد من رحم “زفّت المقاومة..” ستشعر كيف يأخذون بيد روحك إلى أرض القتال. ستشعر بحرارة الطلقات والشظايا، وقد تشمّ عبق النقاط التي منها عبروا صوب السّماء. ستُغسل روحك بطهرِ دمائهم، سيكتسي وجهك بنور سكينتهم الهائلة وهي تتهادى فوق أخامص بندقياتهم، وستنبت في قلبك وردة جنوبية الهوية، تفوح في مواقيت النّصر، في كلّ نصر، وتلقنّنا مرّة بعد مرّة، كيف ينتصر الدّم على السيف، وكيف نستحقّ ألق الهويّة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.