المتابعة والرصد للممارسات الأمريكية أو التقارير الاستراتيجية لمراكز الفكر الأمريكية، أو حتى لوسائل الإعلام الأمريكية، تقود حتمًا لنتيجة واحدة ثابتة بالتواتر، وهي أن الأولوية الأمريكية هي إفشال روسيا وهزيمة الرئيس بوتين شخصيًا باعتباره نموذجًا لمقاومة الهيمنة لا بد من أن يهزم ويشكل عبرة، كي لا يتجرأ سواه على مناهضة قوى الهيمنة وتهديد النظام العالمي.
وتستخدم أمريكا في سبيل ذلك كل أدواتها وأسلحتها المتاحة إلا واحدة، وهي الحرب المباشرة والدخول في مواجهة عسكرية واشتباك، تعلم أنه سيشكل دمارًا حتميًّا ولن يحقق لها هدف البقاء على عرش العالم، ولو حتى وفقًا للقبول الروسي والصيني كقطب من ضمن اقطاب متعددة يحترم كل منها نفوذ الآخر، بل ربما ستتحول إلى امبراطورية سابقة بفعل الدمار الناتج عن حرب عالمية ستكون نووية لو اندلعت وانزلقت للمحظورات.
ومن ضمن الاستنفار الذي قامت به أمريكا هو ما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز من أن أمريكا شكلت مجموعة تسمى “فريق النمر” وتضم أفضل المتخصصين الأمنيين، وهي مسؤولة عن وضع الخطط والرد على الفور إذا استخدمت روسيا أسلحة كيميائية أو نووية في أوكرانيا. كما يطور “فريق النمر” الرد الذي ستستخدمه الولايات المتحدة إذا هاجمت القوات العسكرية الروسية قوافل من أراضي الناتو تحمل أسلحة ومساعدات لأوكرانيا.
و”فريق النمر” تداولته بعد ذلك مختلف التقارير والتي لوحظ غيابها في الإعلام العربي، ومن ضمن المعلومات عنه أنه يجتمع ثلاث مرات في الأسبوع في اجتماعات مقررة، ومهمته هي البحث عن حلول إذا سعت روسيا لنشر الحرب في الدول المجاورة، بما في ذلك مولدوفا وجورجيا، وكيفية إعداد الدول الأوروبية لتدفق اللاجئين بشكل غير مسبوق.
وربما اللافت وربما الأكثر تعلقًا بمنطقتنا، هو الإشارة إلى فريق آخر تغيب عنه المعلومات ويحيط به الغموض، وهو فريق أنشأه مجلس الأمن القومي أيضًا، وهو عبارة عن مجموعة إستراتيجية أخرى ستعمل جنبًا إلى جنب مع “فريق النمر” لإجراء فحص طويل المدى للتحولات الجيوسياسية الرئيسية المحتملة التي تحدث بسبب (الغزو) الروسي.
وقال مسؤول أمريكي لموقع سي إن إن الأمريكي عنها: إن المجموعة الإستراتيجية تعمل على مراقبة المخاطر وتخفيفها، بينما تدرس كيفية تعزيز المصالح الأمريكية والدفاع عنها. وهذا يقودنا إلى حملة العلاقات العامة للرئيس الأوكراني زيلينسكي وتحوله من أسلوب الخطاب عبر الفيديو للتجمعات الدولية مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة أو لأعضاء الكونجرس أو لأعضاء الكنيست الصهيوني، إلى جولات بشخصه يجوب العالم فيها على هيئة زعيم تحرر وطني يعرض مظلومية بلاده ويحمل قضيتها في جميع المحافل.
وقد نتفهم أن يذهب زيلنسكي لمجموعة السبع التي استبقت استقباله بفرض عقوبات على روسيا، حيث تضم المجموعة حلفاء أمريكا فهي منظمة تضم الاقتصادات السبعة الأكثر “تقدمًا” في العالم، والتي تهيمن على التجارة العالمية والنظام المالي الدولي، وهي كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. أما غير المفهوم فهو توجهه للقمة العربية، نظرًا لأمرين رئيسيين يتعلق أحدهما بالقمة ذاتها والآخر بالموقف السياسي العربي وتبايناته، وذلك كما يلي:
أولًا: فيما يخص القمة العربية، فهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها دعوة رئيس دولة بعينها للحضور، وليس مسؤولين في منظمات إقليمية ودولية، مثلما جرى عليه العرف الدبلوماسي في الدورات السابقة لمؤتمرات القمة العربية على مستوى القادة، ولم يسبق لأي دولة عربية أن دعت شخصيات خارج الصفة التمثيلية المكتسبة في إطار المنظمات المعروفة، مثل منظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الإفريقي وحركة دول عدم الانحياز والبرلمان العربي ومنظمة الأمم المتحدة، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة حول الأهداف والغايات من خطوة كهذه، وهو سؤال وجهته الصحف الجزائرية وربما كان سببًا من ضمن أسباب عدة لغياب الرئيس الجزائري.
ثانيًا: بخصوص الموقف السياسي العربي، فإن غالبية الدول العربية اتخذت مواقف حيادية تجاه الصراع الروسي الأوكراني، كما شكلت الجامعة العربية وفدًا وزاريًا عربيًا للوساطة بين موسكو وكييف، كما توجد دولة عربية مثل سوريا والتي يحتفى بعودتها، اتخذت موقفًا صريحًا يدعم روسيا!
وبخصوص ملابسات الدعوة، فهي تبدو كأنها أمر دبر بليل، حيث كان الإعلان عنها مفاجئًا، وقال مسؤول في جامعة الدول العربية لوكالة فرانس برس إن حضور زيلينسكي جاء “بدعوة من السعودية، وليس من الجامعة العربية”، ولم يردّ مسؤولون سعوديون على طلبات الوكالة للتعليق.
وقد استبق زيلينسكي سفره لجدة بتغريدة قال فيها إن أولوياته في الزيارة ستكون “تقديم صيغتنا للسلام والتي يجب أن يشمل تنفيذها أكبر عدد ممكن من الدول”. كما وجه في كلمته للقمة كلمات تخالف اللياقة الدبلوماسية لضيف على مجموعة عربية، حيث انتقد من يدعمون روسيا كما تناول مزاعمه ضد إيران بأنها تسلح روسيا بالمسيرات التي تقتل الشعب الأوكراني، مخالفًا أجواء المصالحات، وكأنه يحمل كلمة فتنوية برعاية أمريكية صهيونية صريحة.
هذا يقودنا إلى استقراء دلالات عدة:
1- لا يزال النفوذ الأمريكي مهيمنًا بقوة على أجواء القمم الرسمية العربية وتظهر ملامحه في مواقف المعترضين على عودة سوريا والمبالغة في سوق المبررات لعودتها والحرص على إرفاقها بتوضيحات أن العودة ليست تطبيعًا وأن هناك فصلًا بين عودة المقعد وحرية كل دولة في اعادة العلاقات، وكأنه تنصل وخشية من غضب أمريكي وربما إسرائيلي.
2- الطرح السائد بأن هناك استقلالًا وتمردًا سعوديًّا وخروجًا من العباءة الأمريكية بحاجة إلى تدقيق بعد الدعوة السعودية التي لا تخرج عن أمرين، إما مغازلة لأمريكا واتقاء لغضبها، وإما تنفيذًا لأمر أمريكي ، وخاصة بعد ما تم تسريبه من تحذيرات أمريكية شديدة اللهجة للإمارات بعدم توسيع تعاونها مع روسيا والصين هو ما جعل الإمارات توقف بناء قاعدة صينية بالقرب من أبو ظبي، وبلحاظ أن المعايير الرئيسية للتمرد على أمريكا لم تتحقق وعلى رأسها استمرار البترو- دولار وهيكل التسليح والمظلة الأمريكية الحامية لأمن المملكة.
3- اختطاف القرار العربي سعوديًّا وعدم مناطحة الدول للسعودية وعدم خضوع أمر بهذه الأهمية والخطورة السياسية للمشاورات وكأن لا أحد يملك حق الاعتراض، وكأنها قمة سعودية خالصة وليست استضافة دورية للقمة على أراض سعودية!
كلما احتد الصراع الدولي كلما ضاقت هوامش التحوط والموازنة وتكشفت حقائق الأمور وجوهر السياسات، وهو ما يضيف لهذه القمة أهمية مضافة، حيث شهدت إعلان انتصار سوريا على مؤامرة اسقاطها وعزلها، وشهدت كشف حساب وتقدير موقف لحقيقة الوضع العربي ومن يقوده وحقيقة استمرارية التبعية والدوران الرسمي في الفلك الأمريكي باستثناءات ضئيلة تأتي سوريا على رأسها.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.