في مئويتها الأولى، لم تخرج الجمهورية التركية من أرقها الدائم بعد، الاستقرار عنوان قلق دائم على “الديمقراطية” في استحقاقاتها المختلفة، حتى أن حاكمية هذه الذريعة كانت مثالية لانقلابات عسكرية، غالبًا ما أتت بعد افتعال عنف سياسي يولده إما الاستقطاب بين اليسار واليمين (زمن الحرب الباردة) وإما بين العودة إلى الجذور والتغريب العلماني (زمن صعود الإسلام السياسي)، وإما بين طموح كردي للانفصال أو الإدارة الذاتية وسياسات طمس الهويات المتعددة لمصلحة لون قومي واحد، هي ليس مجرد غمامة صيف عابرة في تاريخ بلاد الأناضول، ربما لأن خيوط هذا القلق لا تنسج فقط داخل البلاد، وإنما تسمع أصواتها الهامسة بين الشرق والغرب.
انتهت الجولة الأولى من الكباش الانتخابي في تركيا، وخرج معها الطرفان البارزان من المعركة مثخنين بجراح النتائج البرلمانية ومن دون حسم الموقع الرئاسي، وإن أقر الرئيس رجب طيب اردوغان بتراجع “مع الأسف” لنسبة نواب حزب العدالة والتنمية الذي يقوده، فإن منافسه المعارض كمال كيليتشدار أوغلو تجاهل انخفاض عدد نواب حزب الشعب الجمهوري الذي يتزعمه وسط “صراخ داخلي” لأركان حزبه من الأرقام النهائية.
وإن كانت خسارة حزب رئيس الجمهورية بواقع 28 مقعداً، فإن بعضاً مما ربحه كان بتعاونه مع أحزاب صغيرة نزل مرشحوها تحت اسم العدالة والتنمية (من بينها 3 مقاعد لحزب “الدعوة الحرة” الكردي الإسلامي، و3 مقاعد لحزب “اليسار الديمقراطي” الليبرالي)، في المقابل كان الرصيد الكبير لحزب المعارضة الأول بفضل أحزاب حليفة ترشحت تحت مسمى حزب الشعب الجمهوري بنتيجة 39 نائباً (14 نائباً لحزب “الدعوة” بقيادة علي باباجان المنشق عن العدالة والتنمية و10 مقاعد لحزب “المستقبل” برئاسة أحمد داوود أوغلو المنشق أيضاً عن الحزب الحاكم و10 لحزب “السعادة” الإسلامي بقيادة تمل كرم الله أوغلو، و3 للحزب الديمقراطي ومقعد واحد لكل من حزبي “التغيير” و”الجيد”)، ما يقلص العدد الفعلي لحزب كيليتشدار أوغلو إلى 130 نائباً.
حُسمت المعركة البرلمانية للسنوات الأربع القادمة، لكن أصداء قرقعة الأسلحة بقيت مسموعة بين اقتصاد ولاجئين، ودين وهوية، وأمن وإرهاب، وعلاقات دولية وشؤون داخلية، ربما لأن جولة ثانية من الانتخابات (28-05-2023) بانتظار الاتراك، وهي جولة محفوفة بمخاطر انقسام واضح بين معسكرين لعل بلاد الأناضول لم تشهده منذ نحو قرن، والرئيس الحالي الساعي إلى خمسية جديدة يعلم أن أمامه مواجهة شرسة، وإن كانت الأرجحية له كما يردد إعلام ومراكز دراسات غربية (وصلت بعضها للحديث عن فوزه بنسبة 70 %)، ومرد الجولة الصعبة لاردوغان ماثلة أمامه بعد ذهاب منافسه كيليتشدار أوغلو بعيدًا بسياسة حافة الهاوية في خطاب جديد يستميل المرشح الثالث في الجولة الأولى سنان أوغان (المدعوم من حزب “الظفر” اليميني المعادي للمهاجرين) الحائز على رصيد يفوق 5% من أصوات الناخبين قد يجيّرها (افتراضيًا) إلى المرشح المعارض الذي نال نسبة 45 % في صناديق الاقتراع.
ولأن تحدث كيليتشدار أوغلو بكلام “أعجب” رئيس حزب “الظفر” أوميت أوزداغ (بالمناسبة خسر مقعده النيابي)، فقد أشهر مرشح حزب الشعب الجمهوري سلاحًا ذا حدين يمثلهما أوغان: حد أول يعمل على تضخيم أبعاد أزمة اللجوء اقتصاديًا وأمنيًا (خاصة اللجوء السوري) وحد ثاني يعبّر عن توجه قومي يميني لا يقبل بحوار مع من يمثلون الإرهاب في الداخل (“بي كي كي” أو حزب العمال الكردستاني). وبينما يستفيد “باي كمال” من الحد الأول لإطلاق نيرانه من دون هوادة على سياسة خصمه اردوغان خلال العقد الماضي، فإن الحد الثاني يضعه في خصومة مع جمهور واسع من مكون كردي يمثله حزب “اليسار الأخضر” (المسمى الجديد لحزب الشعوب الديمقراطي المحسوب على الأكراد) الذي قاد تحالفًا أعلن دعمه لمنافس اردوغان في الجولة الأولى، وحاز برلمانيًا على 10.55 % من أصوات الناخبين هي حكمًا جزء مما حازه مرشح المعارضة الرئاسي (45%).
غير أن ورقة الاقتصاد، المستنفدة إلى حدها الاقصى في لعبة المعارضة، قد لا تؤتي أكلها من بوابة معضلة المهاجرين كما يجب، وهو ما دفع كيليتشدار أوغلو لتخويف الناخب التركي في أمن واستقرار بلاده (قال خلال مؤتمر صحافي في 18-05-2023 إن “10 ملايين لاجئ إضافي سيأتون إلى تركيا”، و”سيتحولون إلى آلات للجريمة، وسيبدأ النهب”، و”المدن ستكون تحت سيطرة اللاجئين”، و”لن تتمكن الفتيات الصغيرات من المشي في الشوارع بمفردهن”)… هو خطاب يتعهد بـ”إعادة جميع المهاجرين إلى بلادهم” ليستنفر ما أمكن من جمهور (فرضت أزمة اللاجئين نفسها على واقعه اليومي) إلى حد تحميل اردوغان المسؤولية عن “التفريط بحماية حدود البلاد وشرفها”.
لكن الدعاية الانتخابية للمرشح المعارض، وضعت مسارها في ازدواجية سياسية بين إرضاء اليمين القومي علناً (التبرؤ من دعم الإرهاب والتهويل بخطر اللاجئين أمنياً)، وتوسل دعم تحالف “اليسار الأخضر” (ذي الصلة المعنوية مع “بي كي كي” وأنصاره في جنوب شرق البلاد)، وهي ثغرة عرف الرئيس التركي الاستفادة منها في حربه النفسية على الكتلة المنافسة ليزعزع نواة اليمين الصلبة في تحالف “الأمة” عبر اتهام كيليتشدار أوغلو بـ”تلقي الأوامر من جبال قنديل (المعقل التاريخي لحزب العمال الكردستاني) وبنسلفانيا (مقر إقامة فتح الله غولن المتهم بتدبير انقلاب 2016)”، والتذكير بهتافات التأييد لزعيم “الكردستاني” (المصنف إرهابياً) عبد الله أوجلان (المعتقل بجزيرة إمرلي) في مهرجانات انتخابية لحزب الشعب الجمهوري في مدن تركية مختلفة.
وإلى أن يحين صباح الاثنين 29-05-2023، تركيا أمام خيارين من الحكم: واحد مرجح يحدده عبور زعيم حزب العدالة والتنمية واستكمال مسيرة إدارته البلاد سياسة واقتصادا، وآخر مفاجئ يؤطره فوز منافسه كيليتشدار أوغلو مع ما يعني ذلك من تعارض في إرادة الحكم بين رئيس جمهورية ينتمي لكتلة أقل في البرلمان وأغلبية لحزب اردوغان في “مجلس الأمة الكبير” ما يفتح الباب عى احتمال الدعوة لانتخابات مبكرة تعيد خلط الأوراق من جديد.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.