بعد مضي ليلة على دخول وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ، أفاقت فلسطين على خبر اغتيال “المطارَد” إبراهيم النابلسي، إلى جانب مقاتلين كانوا معه، بصاروخ أطلقه الاحتلال على المنزل الذي تحصّن بداخله في نابلس. أما العدوان على غزة ذاته، فبدأ عملياً بعد اعتقال الشيخ بسام السعدي، القيادي في الجهاد الإسلامي من مخيم جنين، ولا يمكن قراءة حيثياته من دون أخذ مخيم جنين خاصة، والضفة عموماً، بعين الاعتبار. هذه الأحداث تؤشر، بوضوح، إلى شيء ما جديد، يولد في الضفة الغربية تحديداً، ولا يزال محدوداً في شمالها، وبصورة خاصة في جنين ونابلس، لكنه يتوسع مع انغلاق الأفق السياسي وضيق سيطرة النظام السياسي الرسمي، وكذلك تراجُع مكانة التقليدي القديم الذي يغدو أوضح كل يوم، وعلى عدة صعد: سياسياً، وميدانياً، وأيديولوجياً.
في سلسلة المقابلات التي أجراها رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية أفيف كوخافي، بمناسبة مرور 20 عاماً على عملية “السور الواقي”، التي اجتاحت خلالها إسرائيل مدن ومخيمات الضفة الغربية، يركز كوخافي والمراسلون أيضاً على الربط ما بين الماضي والحاضر، وتحديداً على ما يسمى “عملية الترميم الدائم” لناتج عملية “السور الواقي”، وعند السؤال: هل من الممكن أن يحدث مرة أُخرى؟ يجيب بحزم ومن دون تردد: من المؤكد. وعلى الرغم من أننا لسنا أمام عملية “سور واقٍ” جديدة في الضفة الغربية، حتى الآن على الأقل، فإن كثرة الاقتحامات، ووصول عدد الشهداء من جنين وعلى أرضها وحدها منذ بداية العام حتى نهاية شهر حزيران/يونيو إلى 27 شهيداً، والعلاقة التي برزت خلال العدوان على غزة ما بين جنين وغزة، كلها أمور تدفع إلى التساؤل عن الظروف الجديدة التي تنمو في الضفة الغربية، ويبدو أن إسرائيل على الأقل بدأت بالتعامل معها، وتحديداً مع موجة العمليات الأخيرة التي اجتاحت المدن المحتلة سنة 1948، مطلع العام الحالي، وسلطت الضوء على المخيم الذي خرج جزء كبير من المنفّذين منه. أما مستقبل هذه الحالة الوليدة، فإنه يتعلق، إلى حد بعيد جداً، بعوامل كثيرة تبدأ من النظام السياسي الرسمي التقليدي الفلسطيني، وصولاً إلى مدى نجاح إسرائيل في إعادة ترميم سورها الواقي.
عن أهمية “الليل” في الضفة الغربية
في المقابلة التي أجراها كوخافي إلى جانب جنرالين آخرين مع “قناة الأخبار”، تعود مقولة “ليلة ليلة” مرة تلو الأُخرى. وفي هذا، كما في العدوان الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة، بعد محاولة الجهاد الإسلامي تغيير معادلة الاعتقالات الليلية في الضفة الغربية، إشارة إلى أهمية هذه السياسة التي تُسمى أيضاً “حرية العمل”- أي حرية اقتحام بيوت الفلسطينيين وترهيبهم واختطافهم من أُسرهم، ومن أحضان أطفالهم وأمهاتهم وزوجاتهم. أما الهدف منها، عملياً، فهو التأكد من أمرين مهمين جداً بالنسبة إلى إسرائيل: الأول، يعود إلى عملية “السور الواقي”، حيث استطاعت قوات الاحتلال، حينها، اختراق مناطق التحصّن الفلسطينية داخل المدن والمخيمات، وفي مركزها، وتفكيك بنى المقاومة فيها، وهو ما حوّلها إلى مناطق مخترَقة عسكرياً، فاقدة لقدرة الدفاع عن نفسها، إذ تعمل استراتيجية الاقتحامات الليلية على الإبقاء عليها كما هي، وتحول دون إعادة تشكّلها كمناطق محصّنة؛ أما الثاني، فهو إرسال رسالة واضحة إلى المجتمع الفلسطيني الواسع، مفادها أن إسرائيل قادرة على الوصول، وموجودة في كل مكان، وهو ما يُعرف بسياسة إثبات الوجود بهدف الردع. أما الوتيرة، فتتعلق إلى حد كبير جداً بوتيرة العمليات، وبقدرة أجهزة أمن السلطة على “السيطرة” داخل مناطق (أ). وبكلمات أُخرى: ضمان بقاء الضفة مخترَقة والإبقاء على معادلة الهزيمة ما بعد “السور الواقي”.
في العام الأخير، بدأ مخيم جنين يتحدى هذه المعادلة، ليغدو كل اقتحام ليلي إسرائيلي للمخيم معركة حقيقية تخلّف إصابات وتحتاج إلى قتال عسكري، على عكس الوضع القائم، إذ يتصدى الشباب بالحجارة لمركبات محصّنة. وهو ما تؤكده أيضاً إحصائيات جيش الاحتلال، التي تشير إلى قيام الوحدات الخاصة بـ250 عملية هجومية خلال الأشهر الأخيرة وحملة “كاسر الأمواج”، في مخيم جنين وحده. هذه الحالة الوليدة في مخيم جنين تستمد قوتها من عدة عوامل: أولاً، عدم قدرة السلطة على ضبطها، حتى بعد تغيير قيادات الأجهزة الأمنية في منطقة جنين؛ ثانياً، وجود نوع من أنواع التحالف الذي يتخطى التقسيم الفصائلي، وهو ما يثبته تعدُّد الخلفيات الفصائلية للشهداء والمقاتلين، إذ يتشارك ابن الجهاد الإسلامي مع ابن كتائب شهداء الأقصى، كشقيق الأسير زكريا الزبيدي الذي استشهد في المخيم؛ وثالثاً، تحوُّل المخيم وجنين عموماً إلى منطقة تستقطب “المطلوبين” في الضفة الغربية بسبب وجود نوع من أنواع التنسيق والحماية والبنية التي باتت، على الأقل، تجعل من الاقتحام الإسرائيلي عملية صعبة، كثيراً ما تفشل في الوصول إلى المطلوبين. هذا لم يتوقف في جنين، بل تمدّد إلى نابلس، حيث يشير العديد من التقارير إلى نوع من أنواع التنسيق بين المنطقتين، فعاد مصطلح “مطارَد” و”مطلوب” يُتداول كثيراً في الضفة الغربية، بعد أعوام طويلة من الاختراق الإسرائيلي والتفاخر بـ”قدرة الوصول”. وأكثر ما يدلل على عودة هذا المصطلح الذي ندر وجوده خلال الأعوام العشرة الماضية، هو قصة إبراهيم النابلسي الذي استطاع الهرب من أجهزة القمع الإسرائيلية، مرة تلو الأُخرى، بفضل وجود بنية حامية تراقب وتقاتل وتشتّت جهود الاحتلال في منطقة القصبة داخل البلدة القديمة في نابلس.
العامل الإضافي الذي لا يمكن إثباته، نظراً إلى طبيعته السرية، والإشارة إليه تستند إلى تقارير المراسلين العسكريين ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، فهو عامل الربط والتمويل، إذ تشير التقارير إلى وجود بنية داخل جنين تحديداً، ولاحقاً نابلس، استطاعت تمويل ذاتها وبناء علاقات مع خارج الضفة الغربية تساندها في التنظيم والتمويل. وعلى الرغم من عدم إمكان إثباته، فإنه يبدو واضحاً في العتاد العسكري الموجود داخل مخيم جنين، ويظهر أيضاً في الجنازات؛ كما يظهر في الربط الذي حدث ما بين الضفة وغزة خلال العدوان الأخير، وكذلك في التسمية “وحدة الساحات”، التي أطلقتها حركة “الجهاد الإسلامي” على المعركة الأخيرة مع قوات الاحتلال، وامتدت مباشرة من جنين إلى غزة.
أين السلطة؟
هذا التغيير العسكري الميداني في الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية، يلتقي مع ظرف حرج جداً يعيشه النظام السياسي الرسمي في الضفة الغربية، ويتكامل معه. فأولاً، قامت إسرائيل في الفترة الماضية بالدفع قدماً بعدة خطوات مهمة، كانت تشير جميعها إلى نية حسم الصراع على الضفة الغربية: إعلان القدس عاصمة موحدة لإسرائيل من طرف إدارة ترامب وحكومة نتنياهو؛ النية المعلنة لضم مناطق (ج) في الضفة الغربية إلى إسرائيل، والتي توقفت موقتاً، ومن المرجح عودتها مع عودة حلف نتنياهو- الصهيونية الدينية إلى الحكم؛ عدم وجود أي مسار سياسي واختزال دور السلطة والتعامل معها من البوابة الأمنية وبوابة وزير الأمن؛ طرح “صفقة القرن”، وإن لم تمر، إلا أنها كانت إشارة واضحة إلى ما تريده إسرائيل بكل ما يخص الضفة الغربية؛ بالإضافة إلى التطبيع والدور الذي لعبه في تهميش مكانة السلطة وقيادة منظمة التحرير. باختصار: جعلت إسرائيل مبررات وجود السلطة محصورة في الأمور المعيشية والتشغيلية والخدماتية، على حساب برنامجها السياسي ومبرر وجودها الوطني العام. ومن هنا أيضاً، تشتق المرحلة الحرجة التي تعيشها السلطة داخلياً فلسطينياً، فمع هذا التراجع في المكانة العامة وتعمُّق المشروع الاستعماري، بدأت ترجح كفة التنظيمات العسكرية، وبصورة خاصة من غزة، في الصراع الداخلي على تمثيل الشعب الفلسطيني، وحازت على دفعة لا يمكن الاستهانة بها مع معركة “سيف القدس” التي ربطت القدس بغزة، ولا تزال إسرائيل تحاول فك هذا الارتباط.
هذا التغيير السياسي، يأتي في وقت تعيش السلطة حالة من الترقب مع تقدُّم عمر الرئيس أبو مازن، وتضاف إليه أيضاً “أزمة الرواتب” والوضع الاقتصادي الخانق الذي يصعّب مهمة السلطة، في ظل حالة غلاء معيشة تنتشر في العالم أجمع، وتُلقي بظلالها على الضفة الغربية كي تفاقم معاناتها. على سبيل المثال، تجد في كل تحليل عسكري إسرائيلي تقريباً، إشارة إلى مكانة السلطة المتراجعة وقدرتها والخلافة. وهو ما يؤكده بصورة خاصة المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل، الذي يفسّر الغليان في الضفة بأنه مزيج ما بين الصراع على ما بعد أبو مازن، وصراع أجيال داخل حركة “فتح”. وهو ما يبدو واضحاً أيضاً، كون النابلسي ورعد حازم من أبناء قيادات فتحاوية في الأجهزة الأمنية، يحاولون التمرد على الوضع القائم كما يبدو، ويندمجون في إطار عمل محلي مشترك. أما عن تراجُع قوة السلطة، فيشير هرئيل إلى أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لاحظت هذا الاتجاه المستمر، وتحذّر منه منذ عامين.
أما العامل الإضافي الذي لا يمكن التغاضي عنه، فهو دور حركة “الجهاد الإسلامي”، الآخذ بالنمو والتطور في الضفة الغربية، وتحديداً في جنين. إذ تتميز الحركة عملياً بثلاث أوراق قوة مهمة في الظرف الحالي الفلسطيني، تساعدها على التطور: أولاً، وجود الحركة خارج اللعبة السياسية فلسطينياً، وهو ما يجعلها حرة من الالتزامات المعيشية التي تكبل حركة “فتح” في الضفة الغربية و”حماس” في غزة، كما يسمح لها بعدم تحمّل مسؤولية الوضع القائم، إذ توجَّه السهام اجتماعياً نحو الفصائل الحاكمة؛ ثانياً، وجودها خارج منظومة الانقسام، وبالتالي خارج التحريض المتبادل وذريعة القمع السياسي الداخلي، وهو ما يميزها عن “حماس” في الضفة تحديداً، حيث يجعلها الانقسام والاستقطاب مستهدفة أكثر؛ وثالثاً، علاقاتها الإقليمية المتشعبة، وبصورة خاصة مع إيران التي تُعدّ الحليف الأقرب في الساحة الفلسطينية. وهو ما يبدو واضحاً في استهداف إسرائيل للحركة ونشاطها الذي بات ملحوظاً بصورة خاصة في غزة والضفة الغربية، وكذلك بوجودها مع العمليات والعدوان الأخير.
عدوان على الجنين… من جنين
لم تكن الضفة الغربية هادئة يوماً كما تبدو على السطح، ففي سنة 2019 وحدها، أعلن الشاباك أنه أحبط أكثر من 560 عملية، بينها 10 عمليات انتحارية. كما تشكل نظرة سريعة يومية إلى وكالة “وفا”، التي تنشر عدد الاعتقالات الليلية في الضفة الغربية، نافذة للاطّلاع على حجم النشاط العدواني الإسرائيلي للحفاظ على الضفة الغربية كما تبدو على السطح، هادئة. إلا إن مزيجاً من الظروف القائمة اليوم في الساحة الفلسطينية الداخلية، وفي المرحلة التي يعيشها الصراع، تدفع بالضفة إلى أيام تشبه ما قبل “السور الواقي”- أو على الأقل، تدفع باتجاه إعادة معادلة ما قبل “السور الواقي”، فيعود “المطارد” ممكناً، وتولد الرموز، كالنابلسي، من قدرتها على تحدي الاختراق والاعتقال الذي أنهك الضفة طوال الأعوام العشرين الماضية، وحوّلها إلى منطقة مفتوحة تقتحمها إسرائيل كلما أرادت ليلاً، وتسمح لها بالبقاء نهاراً وكأنها “طبيعية”. أما ما يحدث الآن، فإنه وجود مجموعات تحاول خلق مساحات عمل تتحدى الاختراق الإسرائيلي، ومعادلة إمكانية الوصول والاغتيال والاعتقال، مصيرها سيُحدد بنتيجة رد الفعل الإسرائيلي المنشغل هو الآخر بجبهات عدة، تبدأ من غزة، مروراً بلبنان، وصولاً إلى طهران. ونجاحه، ليس مفهوماً ضمناً.
رازي نابلسي – مؤسسة الدراسات الفلسطينية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.