استشهدت شيرين، ففاض من شريانها ضياء زاحم الدماء المتسربة من عنقها، ليطل إلى العالم بنور متوهج، فاضحاً كاشفاً مضيئاً، مؤكداً أنها رصاصة أصابت شعباً يصرّ على الحياة، ولا حياد عنها.
اتسع زقاق القدس العتيقة للمشيعين المفجوعين، وفتحت الجدران أذرعها، مشتاقةً إلى سيول بشرية تتدفق، حاملةً الفكرة على الأكف والأكتاف، رغماً عن إرادة المستعمِر الإسرائيلي الذي أراد اغتيال الفكرة والكلمة قبل التصفية الجسدية، ظناً منه أن إزهاق الأرواح الفلسطينية والتنكيل بحياتها، وحتى مماتها، سيساعده على التخلص من الحكاية التي حاول دفنها وما زالت تلاحقه إلى اليوم.
اغتال الاحتلال الصحافي والكاتب غسان كنفاني، الجسد، لكن لا الفكرة، وهو مَن قال “تسقط الأجساد، لا الفكرة”. كما كسرت إسرائيل ريشة الفنان ناجي العلي، لكن تصفيته لم تعدم “حنظلة”، طفلنا الذي لا يكبر، وما زال يرافقنا ويلملم قصاصات هويتنا المبعثرة ويشكّلها من جديد، اغتالوا شيرين أبو عاقلة، يا لحماقتهم! فتبنّت آلاف الصحافيات صوتها وحملن رسالتها.
مجرم يلاحق شبحاً يطارده
أظهرت إحصاءات جمعتها مراكز حقوقية وإعلامية فلسطينية أنه منذ اندلاع انتفاضة القدس والأقصى في سنة 2000 وحتى اليوم، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي 55 صحافياً فلسطينياً وأجنبياً قضوا باستهداف مباشر ومتعمّد من جيش الاحتلال الإسرائيلي.
القصد من اغتيال الصحافي الإجهاز على الصحافة، وليس الاغتيال بالضرورة تصفية الجسد أكثر مما هو تعطيل فعل الصحافي، فالاعتداءات على الصحافيين، سواء كان ذلك بالضرب، أو الاستهداف بالرصاص المطاطي، وبقنابل الصوت، أو الغاز المسيل للدموع، وحتى الاعتقال، كلها أدوات تعمل على إذلال الصحافي الفلسطيني وإبعاده عن مهنة “المتاعب”.
ورصدت نقابة الصحافيين الفلسطينيين منذ سنة 2013، ما لا يقل عن 7000 جريمة واعتداء من الاحتلال الإسرائيلي على الصحافيين الفلسطينيين. وخلال سنة 2021، ارتكب الاحتلال الإسرائيلي 368 انتهاكاً بحق الصحافيين والمؤسسات الصحافية في فلسطين، أبرزها استشهاد الصحافي، يوسف محمد أبو حسين، في إثر غارة جوية في أثناء العدوان على غزة، بحسب تقرير المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية “مدى”.
لم يستهدف الاحتلال الصحافي الفرد فقط، بل تعمّد قصف أبراج في غزة ضمت مؤسسات إعلامية عربية وعالمية كبرى خلال العدوان على غزة العام الماضي.
لا يحمل الصحافي بندقية قناصة، لكنه يملك قلماً وصوتاً يدينان المجرم ويعريانه، مهما حاول ستر عورته، إنه صوت الحقيقة الذي، مع محاولة إخماده، يتسلل من بين الموت ليدوّي في كل العالم، عين القناص العمياء أرادت اغتيال عين الحقيقة. فاغتالت العين واشتدت البصيرة وبلغت الحقيقة ذروتها.
إسرائيل تعلم بأن أحداً لم يُجْبِ فاتورة إجرامها المتواصل منذ النكبة الفلسطينية سنة 1948-لأن شبكة علاقاتها، أو فرضها معادلة القوة وميزان الربح والخسارة مع دول العالم الكبرى التي تكيل بمكيالين، أمّنت لها ما لا تستطيع تلك الدول تجاوُزه، فتصبح ممارسات إسرائيل مجرد “خروقات”، وإذا كان الرد قاسياً، فيستنكر العالم الحدث ويغض النظر عن الفاعل والمفعول به، ولا تصل الأمور إلى عقوبات وعزل ونبذ، كما هي الحال مع فرض العقوبات على روسيا بعد غزوها أوكرانيا.
ظنّت إسرائيل أن الفلسطينيين سيعتادون الموت والقهر، فكانت الحقيقة التي لا يستوعبها المستعمِر المتغطرس والمغرور، أنه شعب لا يزال حياً، يتألم بآلام أفراده ويفرح بانتصاراتهم، ففي الاغتيال انتصار للفكرة وهزيمة للقوة، كيف لا؟ وفلسطين كلها بكت شيرين وعبّرت عن موقف واحد، إن في الموت غيظ للعدى وولادة للحكاية من جديد، وفي الحياة مسرّة للصديق.
أما قصص الصحافيين الناجين، فهي كثيرة. استذكر منها قصة الصحافي المناضل والرفيق هاشم حمدان – رحمة الله عليه – الذي أفلت بأعجوبة من رصاصات جائعة خرجت من فوهات بنادق جيش الاحتلال تبحث عن هدف لتستقر فيه، بينما كان هاشم عائداً من رام الله سنة 2001، متجهاً نحو القدس بعد أن أخذ عدد جريدة “فصل المقال” من مطبعة جريدة “الأيام”، وكانت تلك أيام الانتفاضة الثانية، والتي كانت توزّع فيها الجريدة في الداخل، فأطلق الجنود النار على سيارته عند حاجز “سميراميس” على مدخل القدس الشمالي. كان هاشم مدرسة صحافية ومخزناً ثقافياً معرفياً، اقتدى به صحافيون كُثر، كان وفياً للفكرة والوطن، مات هاشم بهدوء بعد مرض أصابه، فحملنا رسالته ورسالة شيرين معاً، والتغطية مستمرة.
ناهيك باستهداف الصحافيين والتسبب بإصابات مستدامة للمئات منهم، ونذكر منها أن في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، استهدف جيش الاحتلال عين الصحافي معاذ العمارنة، بينما كان يغطي أحداث قمع الاحتلال للفلسطينيين شمالي الخليل، وتسبب بفقدان عين معاذ اليسرى، فانتفض الصحافيون وعصبوا أعينهم وقالوا للاحتلال إننا سنكون عين معاذ ولن تطفئ عين الحقيقة، وحملوا الرسالة مرة أُخرى.
استهداف الشواهد
انهال الرصاص على الصحافيين عند أعتاب مخيم جنين، فأرادوا شيرين شهيدة غير شاهدة، وأصابوا الصحافي الشاهد، علي السمودي، برصاصة في ظهره. وقدر الله أنه تغلب على قرار الإماتة للمرة الثانية، ففي إصابته أعجوبة وحكاية تولد من جديد.
بفارق عقدين وأكثر من الزمن، ومن المكان نفسه، كان ذلك في منتصف شهر أيلول/سبتمبر 2001، عندما كان السمودي يغطي اشتباكات مسلحة بين مقاومين فلسطينيين وجنود جيش الاحتلال، ويقول في شهادته التي أوردها، حينها، إن القتال كان شرساً، وآخر صورة التقطها في تلك المواجهة لمقاومين فلسطينيين شرسين أغاظوا قوات الاحتلال من كمية السلاح المصوب نحوهم، فقصفت الدبابات منطقة إطلاق النار بقذيفة وخلفت دماراً كبيراً، وسقط شهداء، ووقعت إصابات، فاندفع السمودي نحو رائحة الموت مسرعاً ليصور الدمار والمصابين والشهداء ويساعدهم، وإذ بقذيفة ثانية تمزق شظاياها ساقه، ثم ثالثة تطيّره من مكانه، فنُقل إلى مستشفى الرازي ليستكمل علاجه ويتغلب على الموت، ويبقى شاهداً على جرائم الاحتلال حتى أعجوبة النجاة الثانية.
يتملكنا الشعور بأن القذيفة التي لم تقتل الشاهد على مجازر جنين منذ سنة 2001، سلّمت القناص المهمة لكي يتخلص من الشاهد الحي، لكن السمودي، هذه المرة أيضاً، أدلى بشهادته الحية ودان الاحتلال مرة أُخرى.
رد الوفاء بالوفاء
شيرين كانت وفية لشعبها وقضاياه في حياتها، فردّ الناس ذلك الوفاء في مماتها، حظيت الشهيدة بجنازة تاريخية، فطاف نعشها من جنين إلى رام الله، ثم القدس، حيث ووري الثرى في المدينة العصية على كل ظالم متجبر، صلى الفلسطينيون على نعشها، ومروا بزقاق القدس، رافعين الأعلام الفلسطينية، المشهد الذي جعل الاحتلال يجن جنونه، فاندفع نحو المشيعين والنعش كالوحش المجروح.
أراد الاستعمار تقييد أعداد المشيعين وحظر الأعلام الفلسطينية والهتافات، لكن الذي حدث أن الآلاف حضروا ورفعوا الأعلام وهتفوا، وأقاموا زفة لشيرين تليق بالشهداء، الاحتلال يخاف احتفاء الفلسطينيين بأبطالهم، الرموز هم استمرار الحكاية ولمعان لبريق الحقيقة والحق، وهم نكسة للزيف والقوة، فأصبحت شيرين رمزاً من رموز الوطن، وخاب الاحتلال وخابت ظنونه.
باستشهاد شيرين، أدرك الصحافيون الفلسطينيون الشباب أن الصحافة مهنة يقدّرها الناس، إذا كانت منحازة إليهم، وإذا نطقت بصوتهم وكانت قريبة منهم، وازدادوا يقيناً من أن الرسالة أمانة والانحياز إلى الناس وقضاياهم واجب، والوقوف في وجه الظالم والكشف عن جرائمه ضرورة، فما اغتيال شيرين إلّا جرعة أُخرى لتزويد قناعاتهم بقداسة مهنتهم. فكانت شيرين في حياتها مدرسة للصحافة، وفي استشهادها قداسة للمهنة التي لا تزال تواجه مخاطر جمة، إما بسبب التغيرات في العالم ومكانة الصحافة، وإما بسبب الوضع العربي العام، حيث يعيش الصحافي استهدافات متعددة: من الاستعمار، والأنظمة، ورأس المال.
ونلاحظ أن الصحافة في أيامنا لم تعد محصورة بالصحافيين، فالمراسل التقليدي الميداني – الذي لا بديل منه – يصدر صورة المشهد للحدث أولاً بأول، فيستلم منه الصورة جيش من المراسلين والسفراء الفلسطينيين في فلسطين وحول العالم، يترجمونها إلى لغات عدة، وينشرونها على منصات التواصل الاجتماعي ومنصات إعلامية دولية، ويجيشون الرأي العام العالمي للوقوف مع الشعب القابع تحت سلطة الاستعمار.
منذ هبّة الكرامة في أيار/مايو 2021، أدركنا أن منصاتنا ومنابرنا ومواقعنا قادرة على تصدير الرواية إلى العالم، وخلق حالة من الحراك العالمي ضد المنظومة القائمة على القمع والإلغاء، فأخذ الفلسطينيون وأحرار العالم على عاتقهم الدور التكاملي في حمل الرسالة وتناقُلها، من دون الاكتفاء بدور المتلقّي. وهو ما ولّد احتجاجات ضخمة حول العالم تطالب بوقف جرائم إسرائيل، الأمر الذي جعل فلسطين، بكل تركيباتها، تقف في وجه المستعمر، مواجهةً إياه بإلحاقه بهزيمة مدوية على مستوى العالم، وحتى على المستوى الفلسطيني، بعد أن امتد الاحتجاج من شمال البلاد إلى جنوبها.
أصبح الناشطون على مواقع منصات التواصل الاجتماعي يمارسون مهنة الصحافة من دون قرار مسبق منهم، فمن ينشر رسالة ما ويوثقها، فهو مراسل لقضيته والحدث الذي شهد عليه، وعلى كل ناشط أن يدرك أهمية حمل هذه الرسالة، حتى وإن كانت المجالات المهنية والعلمية مختلفة عن مجال الرصد والتوثيق والتسجيل والنشر والكتابة، فيمكنك أن تؤدي دوراً إيجابياً في لحظة تواجُدك في مكان تعتقد أن شيئاً مهماً قد يحدث فيه، ويجب أن توثّقه، لعلك تكون عين الحقيقة.
التوثيق والنشر على منصات التواصل، أو ما يسمى “الإعلام البديل”، أنا لا أسميه البديل، فهو المكمل للحقيقة، لأن الصحافة تتخذ أشكالاً عدة، والنشر على منصات التواصل هي مرحلة من مراحل بناء الوعي الجماعي بتصدير الرواية، أو الحكاية الشعبية، أو الحدث العيني، وما يسبق منصات التواصل، هو الصحافي الذي يكتب بعد تحرّيه حقيقة المعلومات، والذي يبحث عن التفاصيل الدقيقة التي قد لا يلتفت إليها الناشطون؛ أو بكلمات أُخرى، هي الصحافة التقليدية التي تنقل صورة الحدث بتفاصيله كاملة بعناصر الخبر، وهنا يأتي دور منصات التواصل التكاملي، بترويج تلك المحتويات وكشفها لجماهير أوسع من المتلقّين، والمطلوب، وحتى المحبذ أن يأخذ الناشطون تلك المحتويات ويخرجونها بالطريقة التي تتناسب مع تطلعات رواد منصات التواصل الاجتماعي، بمحتويات بصرية عصرية قابلة للاستهلاك والنشر والتعميم.
فلسطين كلها الحدث ونحن مراسلوها.التغطية مستمرة. ارقدي بسلام يا شيرين.
طارق طه – مؤسسة الدراسات الفلسطينية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.