في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تم توقيع صلح ﭬرساي بين الحلفاء وألمانيا، وفرض الحلفاء على ألمانيا في هذا الصلح نظاماً غير مسبوق للعقوبات والتعويضات، من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، التنازل عن إقليم الألزاس واللورين وتوريد كميات كبيرة من الفحم وغير ذلك من العقوبات القاسية، والتي بلغ من قسوتها أن اللورد كينز الاقتصادي المعروف كان قد انسحب من مفاوضات الصلح، احتجاجاً على قسوة هذه العقوبات، قائلاً: “يا إلهي، كيف يمكن لبلد مهزوم الوفاء بهذه المطالب، الأرجح أن الغرض من فرض هذه العقوبات كان إذلال ألمانيا بما فيه الكفاية وتقييد قدرتها على النهوض مرة أخرى”.
درس التاريخ
والحال أن هذه العقوبات التي فرضها صلح ﭬرساي على ألمانيا مثلت أهم الركائز التي استند إليها الحزب النازي واستثمرها من أجل إعادة بناء ألمانيا، واستثارة النزعة القومية والعرقية الألمانية، إلى أن انتهى الأمر بصعود الحزب النازي والأيديولوجية النازية إلى قمة السلطة، وعودة القوة الألمانية إلى المسرح الأوروبي وبدء الحرب العالمية الثانية.
ولأن مثل هذه الدروس لا يتم التوقف عندها واستخلاص دلالاتها بسبب غياب الحكمة والتعقل، فإن الأمر فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية وبدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، يشبه إلى حد كبير الحالة الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى، أي إمعان الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيين من أعضاء حلف الناتو، في التمادي في إذلال روسيا وتحجميها وإخضاعها لمطالبهم، من خلال التفكير بضم أوكرانيا إلى الحلف ودعم النظام الحاكم للسير في هذا الاتجاه.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق وتحول 16 جمهورية وكيان كانت داخلة في تكوينه إلى دول مستقلة من بينها أوكرانيا، وحل حلف وارسو، تعهدت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الحلف الأطلسي، بعدم تمدد الحلف شرقاً في بلدان أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي السابق، ولكن بمرور الزمن والوقت تجاهلت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها هذه التعهدات، وتمدد الحلف إلى جمهورية التشكيك وبولندا ودول البلطيق، وحرضت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها أوكرانيا على الانضمام إلى هذا الحلف، وهو ما أثار حفيظة روسيا الاتحادية؛ بسبب التهديد المباشر لأمنها القومي ومصالحها الذي يمثله انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي وتواجد قواعد عسكرية وصواريخ موجهة لروسيا من أوكرانيا، وطالبت روسيا بضمانات أمنية للحؤول دون انضمام أوكرانيا وضرورة إرساء مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة أي أمن روسيا وأمن أوروبا على حد سواء، وذلك مقابل تعهد روسيا بعدم غزو أوكرانيا.
أزمة البحر الكاريبي 1962
في عام 1962، نشبت أزمة الكاريبي أو أزمة الصواريخ السوفيتية، التي نصبت في كوبا على بعد مسافة 90 ميلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وأصبح العالم ثنائي القطبية آنذاك على شفا حرب عالمية ثالثة نووية، في إطار الردع المتبادل بين القطبين، ولولا تحلى الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي ونظيره السوفييتي نيكيتا خروتشوف بالحكمة، واتفافهما على سحب الصواريخ السوفيتية مقابل تعهد الولايات المتحدة الأمريكية بعدم غزو كوبا، لكان الوضع قد انفجر في ذلك الوقت على نحو خطير.
في المواجهة الراهنة في أوكرانيا، يمكن القول بأن الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن ليس جون كنيدي كما أن الرئيس الروسي الحالي فيلاديمير بوتين ليس خروتشوف، ففي حين كان كنيدى الزعيم الأمريكي يدرك تحول النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية إلى نظام ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من حلف الناتو وبين الاتحاد السوفييتى السابق وحلفائه من حلف وارسو؛ فإن بايدن والولايات المتحدة الأمريكية يعتقدان منذ انهيار القطب السوفييتي أن النظام الدولي أحادي تنفرد بقيادته وإدارته الولايات المتحدة الأمريكية، وما يزال بايدن يعتقد في استمرار هذه الأحادية القطبية رغم صعود الصين وروسيا الاتحادية وتآكل النفوذ والقوة الأمريكية. كما أن خروتشوف في الحالة السوفيتية كان يقف على رأس القوة العظمي الثانية في النظام الدولي، ويشغل مكانة القطب الثاني في التفاعلات الدولية، في حين أن فلاديمير بوتين على رأس روسيا الاتحادية منذ انهيار المنظومة السوفيتية وتحول الجمهوريات التي كانت تشكلها إلى دول مستقلة، حاول إنقاذ روسيا من الفساد والمافيات واستعادة قوتها مرة أخرى وضمان أمنها ومصالحها القومية في الدائرة الأوروبية وفي العالم، وإذا كانت روسيا الاتحادية، وبوتين على رأسها لا يطمحان إلى استعادة مجدها الأيديولوجي السابق، فإنهما يتمسكان بالطموحات القومية لروسيا ومصالحها في آسيا وأوروبا والعالم.
روسيا والغرب
تمتلك روسيا ترسانة نووية هائلة وموارد ضخمة طبيعية وصناعية وطاقات تمكنها من أن تلعب دوراً مهماً على الساحة الدولية، وقادرة على بناء تحالفات قوية مع الصين وفي الشرق الأوسط، ومن ثم فإن فرض شروط المنتصر في الحرب الباردة على روسيا الاتحادية يلقى مقاومة روسية، ويبدو أن روسيا ليست على استعداد للانخراط في هذه الشروط، بل على النقيض ترى نفسها في وضع يمكنها من فرض شروط تتعلق بأمنها ومصالحها القومية، خاصة وأنها نبهت مراراً وتكراراً إلى ضرورة وضع أجندة أمنية جديدة في أوروبا تأخذ في الاعتبار أمن روسيا وأمن أوروبا على السواء، وهي لم تجد أذاناً صاغية في الغرب.
الغرب بالنسبة لروسيا وفي الوعي الروسي يمثل تحدياً ونموذجاً في الوقت نفسه، هو تحدي لأنه يعتبر روسيا عدواً استراتيجياً سواء في العهد القيصري أو العهد السوفييتي وصعوده كقوة عظمي ثانية، كما أن الغرب نموذج لأنه مصدر الحداثة والتحديث والتكنولوجيا، يضاف إلى ذلك ميراث الحرب الباردة بالذات في الدوائر الاستراتيجية الأمريكية على نحو خاص والتي ترى في أوكرانيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي”الخاصرة الضعيفة” لتهديد روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفييتي؛ لأنها من أكبر دول أوروبا ولأنها دولة غنية بمواردها التعدينية والزراعية والصناعية، ومن ثم حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على إثارة صراعات خافتة الحدة على حدود روسيا، وتغذية التيار القومي الأوكراني المعادي لروسيا والثقافة الروسية بدعوى دعم الديمقراطية، وهو الأمر الذي يثير الغضب الروسي، وتعتبر روسيا هذا التيار بمثابة “نازية جديدة” وامتداد لتعاطف أوكرانيا مع النازية الألمانية واعتقاد أوكرانيا أو قطاع من النخبة الأوكرانية أن بلدهم أصل الجنس الآري وفق وجهة النظر الروسية.
ازدواجية المعايير
والحال أن المعايير المزدوجة الغربية قد أصبحت على المحك مرة أخرى، ذلك أن التدخل الغربي في أوكرانيا من خلال المستشارين والعتاد الحربي والمساعدة الاقتصادية والتحريض على ممارسة أوكرانيا لاستقلالها بالانضمام لحلف الأطلنطي وعدم الرضوخ لروسيا، قد أفضى عملياً إلى ما يراه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي تقصيراً من الغرب في حماية بلاده عند بدء العمليات العسكرية الروسية والاكتفاء بالمساعدة الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية، وهو ما دفع الرئيس الأوكراني إلى التصريح بإمكانية مناقشة “حياد أوكرانيا” مع روسيا. وبطبيعة الحال جاء هذا التصريح متأخراً وليس في التوقيت الملائم وسرعان ما عاد الرئيس الأوكراني إلى تبني التوجهات السابقة ذاتها على هذا التصريح.
تقف الولايات المتحدة الأمريكية وأعضاء حلف الناتو إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا موقفاً لا يتلاءم مع الخطاب الغربي المتشدد إزاء روسيا، واكتفوا بالعقوبات الاقتصادية والتي في نظرهم تشل قدرة روسيا على تمويل الحرب وتضعف من اقتصادها. وقد تدخل نتائج هذه المواجهة الروسية- الأوكرانية في إطار رسم معالم نظام دولي جديد إن في أوروبا أو العالم، بموجبه تتقلص قوة ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية واعترافها بتحول العالم إلى نظام متعدد الأقطاب، أو في الحدود الدنيا إنشاء نظام أمني أوروبي جديد يحقق لروسيا متطلبات أمنها القومي ويحفظ لأوروبا ترتيبات أمنية جديدة. وفي جميع الأحوال، فإن هذه المواجهة قد تحفل بآثار على المدى المنظور والمتوسط والبعيد لم تتبلور بعد في ضوء استمرارها.
الجغرافيا والتاريخ يلقيان بثقلهما في المواجهة الراهنة، ولا تملك أية قوة حيالهما شيئاً، فهما حاضران في الحالة الروسية- الأوكرانية ولا يمكن تجاوزهما، فإذا كانت أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون يضيقون ذرعاً بروسيا وقوتها وامتدادها الجغرافي والتاريخي، فإن روسيا بدورها تدرك ثقل هذين العنصرين وتحاول استثمار نتائجهما وفاعليتهما على نحو أفضل لتعزيز مكانتها الجيو استراتيجية ومكانتها العالمية والدولية، وتملك من الأوراق والرصيد الاستراتيجي ما يمكنها من إعادة ترتيب الأوراق إن أوروبياً أو دولياً لصالحها.
أما حديث الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها عن استعداد الجيش الأوكراني لمواجهة روسيا عسكريا واستنزافها أو اصطيادها في المستنقع الأوكراني، كما حدث أثناء غزوها لأفغانستان، فإنه يستدعي إلى الذاكرة حديثها لدى انسحابها من أفغانستان بقدرة الجيش الأفغاني على مواجهة طالبان وهو ما تبين أنه غير صحيح وأن التقدير كان جزافياً، غير أن الفارق بالطبع كبير بين الحالة الأفغانية والأوكرانية والروسية.
إذ من الواضح حتى الآن قدرة أوكرانيا على المواجهة والاستعداد للمقاومة في مواجهة الهجوم الروسي التي قد تتمدد لفترة من الزمن. فسير المواجهة العسكرية حتى الآن يشير إلى أن الجيش الأوكراني قادر على الصمود وعرقلة الخطة الروسية السريعة لإسقاط العاصمة وتغيير نظام الحكم. ومن ناحية أخرى، فإن المؤشرات في الداخل والخارج تعزز من التعويل على المقاومة الشعبية للروس واستنزاف القوات الروسية وبدء حرب شوارع قد يطول مداها وانعكاس ذلك في الداخل الروسي وزعزعة مكانة نظام الرئيس بوتين خاصة وأن الحرب على أوكرانيا تختلف عن حرب الشيشان والقرم التي اعتمدت على القوات الخاصة والانفصاليين الموالين لموسكو وليس على نشر قوات كبيرة كما هو الحال في أوكرانيا تستنزف الكثير من الموارد.
خطاب الحرب الباردة
قد يختلف المحللون ومنظرو العلاقات الدولية حول طبيعة المواجهة الراهنة في أوكرانيا؛ وهل هي امتداد للحرب الباردة؟ أم أنها حلقة في حرب باردة جديدة؟ أو أنها فقط “نوستالجيا” أو حنين لموروث الحرب الباردة؟. ولكن الاختلاف قد لا يكون كبيراً حول الخطاب السياسي الذي رافق الأزمة الأوكرانية- الروسية- الغربية، من الفاعلين والمسئولين الغربيين، إن من الولايات المتحدة الأمريكية أو من الحلفاء الأطلسيين، والنظر إليه باعتباره امتداداً لخطاب حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين، حيث انطوى هذا الخطاب على “شيطنة” روسيا ونزع المصداقية عن خطابها، واعتباره مجرد أكاذيب ودعاية رخيصة وسيئة السمعة، ولا تكتسب أية قيمة حقيقية أو واقعية، بل هي مجرد تبرير للطموحات الإمبراطورية الروسية سواء منها القيصرية أو السوفيتية، حتى ما يتعلق منها بالأمن القومي الروسي أو المصالح الروسية في الدائرة الحيوية الملاصقة لها جغرافياً وتاريخياً، وكأن روسيا الاتحادية قادمة من كوكب آخر، وتنتمي إلى جغرافيا أخرى، غير أوروبية وتاريخ آخر غير التاريخ الأوروبي وليس لها مشروعية إن في حماية أمنها القومي أو صياغة عقيدتها الأمنية كأي دولة كبيرة، وأن عليها التسليم دون مناقشة بما يراه التحالف الغربي والأطلسي وقبول شروطه، والترحيب بتمدد حلف الأطلسي في الدول المحيطة بروسيا للحصول على الرضا الغربي الأمريكي والأوروبي.
وفي هذا الخطاب الأمريكي- الأطلسي، تبدو الخطط الغربية لتوسع وامتداد الأطلسي كما لو كانت خطط “ملائكية” مسالمة، لا غبار لها أو عليها، بل ولا يأتيها الباطل من بين يديها أو خلفها، وهي مسلمة ومقدسة وينبغي على الجميع التسليم بها دون جدال أو نقاش، ولا شك أن هذا الخطاب يعزز الانقسام والاستقطاب ويدفع به إلى أقصى الحدود الممكنة ويحول دون بناء الجسور وتعزيز الحوار والتفاهم وتأكيد قيم الاحترام المتبادل والأمن المتبادل.
والملفت للنظر في الخطاب السياسي الغربي الذي رافق الأزمة، ذلك التكرار لمفاهيم القانون الدولي والسيادة وانتهاك المعاهدات والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول والديمقراطية، وهي القيم والمبادئ والمفاهيم التي لا تحظي بمثل هذا الاحترام وهذه الأهمية في أغلب الحالات التي يكون فيها الغرب والولايات المتحدة الأمريكية هم الفاعلون والقائمون بانتهاك هذه المبادئ.
ويمكن القول إن أخطر جوانب الهجوم الروسي على أوكرانيا يكمن في انتهاج القوة والعنف لمناصرة الأقلية الروسية والاعتراف بانفصالها في جمهوريتين مستقلتين وليس جمهورية واحدة وهي سابقة يمكن الاستناد إليها من قبل دول وأطراف أخرى تمتلك موارد القوة ومقوماتها لحث أقليات تابعة لها على الانفصال ودعمها عسكرياً وهو أمر بالغ الخطورة في ظل التداخل والتشابك القومي والعرقي والثقافي في دول عديدة على وحدة الدول وسيادتها.
د. عبد العليم محمد – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.