في تحليله “استراتيجية الإلهاء”، يقول المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي إنَّ العنصر المهيمن للرقابة الاجتماعية هو “استراتيجيّة الإلهاء”، لتحويل انتباه الجمهور عن القضايا المهمة والتغييرات الحاسمة، من خلال تقنية الطوفان أو غمر المشتّتات المستمرة والمعلومات غير المهمة. ويستخلص تشومسكي أنَّها عمل لإبقاء “الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً، من دون وقت للتفكير، للعودة إلى المزرعة مثل الحيوانات الأخرى”.
ربما تلخّص هذه الأفكار مضمون السياسات المعتمدة من قبل الولايات المتحدة والغرب تجاه دول العالم الثالث والدول النامية، التي أُغرقت منذ سنوات بأزمات وحروب ومخططات تجويع وحصار لإطاحة كلّ الأفكار والجهود الساعية إلى التحرّر والاستقلال والتنمية.
عملت دوائر المخابرات ووسائل الإعلام ومنظمات في المجتمع المدني بكلّ طاقتها لتزوير الواقع وإيهام الرأي العام بأنّ مشكلتها الحقيقية تكمن في عقم السياسات المتبعة داخل الدول وليس من خارجها. ولأن الفساد والهدر والمنفعة الخاصة والتهميش والبيروقراطية تسيطر في العديد من دول المنطقة، قُدّر للخارج توجيه العقل العربي والإسلامي نحو ما يسمى بـ”الثورات البرتقالية” و”الربيع” وما شاكل من عناوين حرفت طبيعة الصراع وتحكّمت فيه، مغيّبة دور الأجهزة الخارجية وملحقاتها عن اهتمام الكتلة الشعبية الغارقة تحت أثقال الهموم والحاجات.
قد يكون النموذج اللبناني خير تعبير عن “استراتيجية الإلهاء”. منذ الاغتيال المشبوه لرئيس الوزراء رفيق الحريري وما تلاه من اغتيالات، وصولاً إلى الكارثة الاقتصادية والمالية والاجتماعية الراهنة، خضع لبنان لعاصفة من تشتيت العقل وحرفه عن مكامن الخلل والخطر، نسجت بذكاء أرضية الصراع الأهلي والتناحر السياسي، واستكملت بحرب تموز في العام 2006، أملاً باكتمال عناصر الانهيار.
انتصار المقاومة في حرب الأيام الـ33 مثّل حائط الصدّ الأساسي أمام ترجمة تطلعات “إسرائيل” وأميركا وحلفاء محورهما في المنطقة. استدعى ذلك إطلاق مشروع الإرهاب التكفيري انطلاقاً من العراق وسوريا ثم لبنان، إيغالاً من الغرب والرجعيات العربية في سفك دماء شعوب هذه الدول وتحطيم دولها وجيوشها ومقاوماتها.
فشل هذا المشروع بكلّ ما نجم عنه من مآسٍ وتضحيات وخسائر. لم يكن أمام مخطّطي سياسات الإلهاء إلا الاستدارة نحو محاولة ضرب عصب الحياة ومعيشة السكان. عقوبات جائرة وحصار وقوانين ظالمة صبّت جهودها لتحويل المجتمعات إلى جحيم حقيقي يجعل من المستحيل معه التفات الشعوب إلى أخطار مثل الاحتلال الإسرائيلي ومشاريع التطبيع وتدمير الهوية والانتماء تمهيداً للاستيلاء على مقدراتها وسيادتها!
من ينظر إلى خارطة الأزمات في معظم الدول العربيّة يكاد لا يصدق تشابهها في الشّكل والمضمون. الهدف واضح: حصر مطلب الشرائح الاجتماعية وآمالها بالحصول على الدواء والكهرباء والماء ولقمة العيش وتفادي الوقوع في براثن المرض والموت اليومي، فيما تمرّ عبر بيئة الآلام والفوضى مشاريع تثبيت وجود “إسرائيل” وتطبيع علاقاتها مع ما أمكن من دول المنطقة، وشيطنة كلّ من يعارض هذا التوجّه، وتحميله وزر الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم محاولة فرض القبول بكل الحلول التي يقدمها تحالف العسكر والمال الإسرائيلي – الغربي – الخليجي للخروج من خطر التلاشي الكامل.
المعركة في هذه الساحة المصيرية محتدمة. يمسك التحالف الآنف الذكر بموازين قوى فاعلة وشديدة الخطورة. في المقابل، تصمد قوى المقاومة والممانعة في مواجهة تحت عنوان الصبر والعمل على مسارين متكاملين: تحرير المجتمعات من الفساد ومنظومات النهب وخدمة الأجنبي، بالتزامن مع مقارعة الاحتلال ومخطّطات الهيمنة والاستعمار الجديدة.
حسن عبد الله – الميادين
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.