ذئاب الضفة.. قتال الفرد على الثغور

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قبيل الساعة السادسة من صباح 4 شباط/ فبراير 2025، سبقت طلقات الرصاص شروق الشمس داخل معسكر تياسير شرق طوباس، معلنة عن معركة بين مقاوم فلسطيني و11 جندياً إسرائيلياً، انتهت بقتل اثنين من الجنود وإصابة ستة آخرين، واستشهاد المقاوم الذي حير جيش الاحتلال لساعات طويلة قبل أن يكتشف هويته.

جرت المعركة على بعد 5 كيلومترات من عملية عسكرية يشنها جيش الاحتلال على بلدة طمون ومخيم الفارعة، حيث دفع بالعشرات من جنوده، وجرافاته العسكرية وجيباته المحصنة، إضافة إلى الطائرات المسيرة المفخخة. ورغم ذلك كله، وصل محمد دراغمة إلى معسكر تياسير، كمن بجانبه في ساعات الليل، ثم انتهز الفرصة المناسبة لاقتحامه والاشتباك مع الجنود في قلبه.

جاءت عملية معسكر تياسير امتداداً لسيل من العمليات الفردية التي تأخذ منحنىً متصاعداً واستمرارية لا تنقطع، رغم ما تعرضت له فصائل المقاومة من تقييد وحصار منذ انتهاء انتفاضة الأقصى، وصعوبة امتلاك السلاح، ما ألجأ المقاومين إلى عمليات الدهس والطعن وإطلاق النار بالأسلحة المصنعة محلياً مثل الكارلو، والتفخيخ بالعبوات.

لماذا تمثل هذه العمليات مصدر قلق للاحتلال؟ ولِمَ لا ينجح في استباقها والتنبؤ بها؟ كيف تطورت العمليات الفردية؟ وما أثرها؟ يحاول هذا المقال معالجة هذه الأسئلة من خلال الغوص في السيرة المختصرة لنشأة العمليات الفردية وتطورها.

طوفان العمليات الفردية
في صبيحة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وإعلاناً لانطلاق معركة طوفان الأقصى، خاطب قائد أركان كتائب عز الدين القسام، الشهيد محمد الضيف أهل فلسطين وجماهير قضيتها. وخصص خطاباً لشباب الضفة وأهلها، داعيا إياهم للانضمام إلى ركب المعركة، قائلاً: “يا شبابنا في الضفة الغربية، يا كل أهلنا على اختلاف تنظيماتكم، اليوم يومكم لتكنسوا هذا المحتل ومستوطناته عن كل أرضنا في الضفة الغربية، وتجعلوه يدفع ثمن جرائمه طيلة السنوات العجاف الطوال، نظموا هجماتكم على المستوطنات بكل ما يتاح لكم من وسائل وأدوات”.

ودعا الشهيد الضيف إلى تكثيف العمليات الفردية: “اليوم اليوم كل من عنده بندقية فليخرجها فهذا أوانها، ومن ليس عنده بندقية فليخرج بساطوره أو بلطته أو فأسه أو زجاجته الحارقة بشاحنته أو جرافته أو سيارته”. لبت الضفة نداء الضيف بعمليات محدودة وسط إغلاق جيش الاحتلال عليها، وشنه حملات اعتقال واسعة، ورغم ذلك شكلت الضفة إحدى جبهات معركة الطوفان المهمة، وقد نفذ المقاومون منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حتى آذار/ مارس 2025 نحو 2168 عمليّة إطلاق نار، و34 عملية دهس، و50 عملية طعن، وكانت حصيلة هذه العمليات سقوط 60 قتيلًا اسرائيليا، إضافة إلى جرح 478 آخرين، حسب مركز معلومات فلسطين (مُعطى).

لم تقتصر العمليات الفردية على الضفة، سواء قبل معركة الطوفان أو خلالها، بل امتدت إلى خارجها في عمليات إطلاق نار نوعية، أبرزها عملية الشهيد المصري محمد صلاح الذي نفذ عملية إطلاق نار نوعية قبل الطوفان بشهر واحد، مستهدفاً نقطة حراسة عسكرية قرب معبر العوجة على الحدود المصرية الفلسطينية، قتل خلالها ثلاثة من جنود الاحتلال.

وعلى الحدود الأردنية الفلسطينية، نفذ الشهيد ماهر الجازي عملية إطلاق نار على معبر الكرامة في 8 أيلول/ سبتمبر 2024، أدت إلى مقتل ثلاثة من موظفي سلطة المعابر الإسرائيلية. وفي 18 تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته، نفذ الشهيدان حسام أبو غزالة وعامر قواس عملية إطلاق نار في البحر الميت أدت إلى جرح ثلاثة إسرائيليين.

النية المجهولة للاستخبارات
تكثفت العمليات الفردية في السنوات التي شهدت خلالها فصائل المقاومة حصاراً مطبقاً إبان انتفاضة الأقصى من جيش الاحتلال وأجهزة السلطة، وتراجعت قدرتها على تشكيل الخلايا وتنفيذ العمليات. فكانت العمليات الفردية أداة لسد غياب العمل التنظيمي وذلك بمبادرات فردية، يخطط لها وينفذها المقاوم من دون الرجوع إلى هيئة تنظيمية أو هيكل عسكري، ومن دون الحصول على تمويل لعمليته، مستخدماً المتاح بين يديه من وسائل سواء كان مركبته، أو سكينه، أو سلاحا تملّكه بماله. لذلك، لطالما حيرت العمليات الفردية جيش الاحتلال، التي يكرر وصفها بالمعقدة، لعجزه عن التنبؤ بها أو بنيّة منفذها.

بين جزر ومد تتراوح العمليات الفردية من عام إلى آخر، إلا أنها تشهد تصاعداً في السنين التي تخوض فيها المقاومة في قطاع غزة معارك مع جيش الاحتلال، أو خلال ذروة الهبات التي شهدتها الضفة الغربية بعد انتفاضة الأقصى. ويشكل الظرف العام تعبئة للمقاومين ودافعاً لتنفيذ عملياتهم الفردية، انتقاماً من المجازر التي يرتكبها الاحتلال، أو ثأراً لاستشهاد قريب أو صديق.

وأمام التصاعد المستمر للعمليات الفردية، وتطورها وتوسعها، خاصة عمليات الدهس بعد عام 2015، اتخذ جيش الاحتلال جملة من الإجراءات، بنشر المكعبات الإسمنتية وزيادة الحواجز، وتحصين محطات الحافلات. كذلك أقام شبكة واسعة من كاميرات وأنظمة المراقبة منها: “الذئب الأحمر”، و”الذئب الأزرق”، و”قطيع الذئاب”، وهي تختص بمراقبة تحركات الفلسطينيين، وتعمل على مسح وجوههم لبناء قواعد بيانات ضخمة للمراقبة، خاصة في مدينتي القدس والخليل. كما أخضع مواقع التواصل الاجتماعي لمراقبة مكثفة للتنبؤ بمنفذي العمليات، ومحاصرة وتقييد المحتوى الفلسطيني الذي يسهم في تحشيد الفلسطينيين وتعبئتهم ضد الاحتلال.

لم يعتمد الاحتلال على التكنولوجيا وحدها وتطويره المستمر لها للتنبؤ بمنفذي العمليات الفردية، بل عمل أيضاً على التحقيق المعمّق في بيئات منفذي هذه العمليات للوصول إلى أكبر قدر ممكن من المعلومات حولها، بهدف تحديد مواصفات جماعية يشترك في امتلاكها هذا النوع من المقاومين وتوظيفها في محاولات التنبؤ بالعمليات المستقبلية وصياغة استراتيجية مضادة.

عندما تصبح فرامل السيارات أداة في المعركة
الأحد 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، كان يوماً عادياً في قاعدة “غليلوت” العسكرية شمال “تل أبيب”، حتى اندفع رامي الناطور بشاحنته صوب إحدى محطات انتظار الحافلات التي تكدس فيها عشرات من جنود الاحتلال، وقد أسفرت عمليته عن قتل 6 جنود إسرائيليين وإصابة 50 آخرين.

كانت عملية الدهس التي نفذها رامي الناطور (49 عاماً) من مدينة قلنسوة المحتلة عام 1948، نقلة جديدة في العمليات الفردية التي نُفذت خلال معركة الطوفان، ليس لكونها الأكبر من حيث ما سجلته من حصيلة قتلى وإصابات فحسب، وإنما لاختيار مكان العملية بالقرب من قاعدة عسكرية، ولتوقيتها بعد أكثر من عام مارس خلاله الاحتلال ردع الفلسطينيين في الداخل المحتل وحاصر مشاركتهم في الطوفان.

من الممكن أن نؤرخ لعمليات الدهس بدءا من انتفاضة الحجارة، ففي 18 شباط/ فبراير 1987 اندفع شاب في مخيم عسكر شمال شرق مدينة نابلس، نحو دورية حرس حدود إسرائيلية راجلة. وإن كانت هذه فاتحة عمليات الدهس في الضفة آنذاك، فإنها شهدت تصاعداً بطيئاً، إذ تبعتها عملية بعد عامين وأخرى في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1991. وبعد سنوات عديدة، استعاد الفلسطينيون عمليات الدهس باعتبارها أداة خلال انتفاضة الأقصى.

ففي 14 شباط/ فبراير 2001، وبعد ساعات من قصف الاحتلال مخيم خانيونس، انطلق خليل أبو علبة – الذي كان يعمل سائقاً في شركة الحافلات الإسرائيلية – صوب مجموعة من جنود الاحتلال والمستوطنين في إحدى محطات الحافلات في يافا المحتلة، فقتل ثمانية منهم وأصاب 21 مستوطناً.

خطط خليل بمفرده لعمليته، وقال عن دافعه للعملية: “الجرائم اليومية التي يرتكبها العدو هي ما دفعني للانتقام لكرامة شعبنا (..) ولو قدر لي الله ومكنني أن أعيد هذا العمل لأجل فلسطين فلن أتردد”. حكم الاحتلال على أبو علبة بالسجن 8 مؤبدات و20 عاماً، وحررته المقاومة بصفقة وفاء الأحرار عام 2011.

ظلت عمليات الدهس نادرة خلال انتفاضة الأقصى، ومحصورة في المبادرات الفردية لمقاومين لم يتمكنوا من حمل السلاح، في حين تركز عمل الفصائل المقاومة على العمليات الاستشهادية وعمليات إطلاق النار. ولكن في 2 تموز/ يوليو 2008 نفذ تيسير دويات من بلدة صور باهر بالقدس المحتلة، ثاني أكبر عملية دهس خلال الانتفاضة، إذ هاجم بجرافة عددا من مركبات المستوطنين وحافلاتهم في شارعي (13) و(60) الاستيطانيين، وقتل في العملية ثلاثة مستوطنين وجرح 44 آخرين، قبل أن يرتقي شهيداً. تلتها في 22 أيلول/ سبتمبر 2008 عملية قاسم مغربي قرب سور البلدة القديمة في القدس المحتلة، والتي أُصيب فيها 19 مستوطناً.

سكاكين شحذها المقاومون
برزت السكين واحدة من الأدوات التي أسهمت في تصاعد العمليات الفردية واستمراريتها، لسهولة امتلاكها والتحرك بها في يد مقاوم جريء، شديد البأس، اختار أن يجابه جنودا مسلحين ومحصنين، بسكينه. وقد شكلت عملية الشهيد مهند الحلبي مساء 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 بالقرب من باب الأسباط في بلدة القدس القديمة، شرارة انطلاق عمليات الطعن في “هبة السكاكين”، التي جاءت رفضاً لتصاعد الاعتداءات على المسجد الأقصى، ورداً على إحراق المستوطنين عائلة دوابشة.

سجل عام 2015 ذروة عمليات الطعن، بتنفيذ 65 عملية، استشهد إثرها 106 فلسطينيين، وأدت إلى مقتل 35 إسرائيلياً. في حين تراوحت غالبية أعمار منفذي العمليات من 18 إلى 22 عاماً، أي أنه الجيل الذي ولد بعد اتفاق أوسلو، ولم يخضع لسياسات السلطة ومحاولاتها المستمرة لإبعاده عن خيار المقاومة. أحدهم كان الأسير عمر العبد المحكوم بالسجن 4 مؤبدات بعد تنفيذه عملية طعن عام 2017، قتل فيها ثلاثة مستوطنين، وقد عبر عن خياره في وصيته: “أي حياة هذه التي تقتل فيها نساؤنا وشبابنا ظلما ويدنس أقصانا؟ أليس من العار علينا الجلوس؟ (…) أنتم يا من سلاحكم صدئ، أنتم يا من تخرجون سلاحكم في المناسبات ألا تخجلون من أنفسكم؟”.

لم تنحصر عمليات الطعن في ذروة هبة السكاكين، ولم تتوقف أمام الإجراءات التي اتخذها جيش الاحتلال بتحصين النقاط العسكرية التي يتمركز فيها جنوده وإعادة تصميم ملابسهم ودروعهم، وإصدار قوانين تشرعن قتلهم للمنفذين أو لأي شخص يشتبهون به.

لم تكن عمليات الطعن حديثة في مسيرة عمليات المقاومة، بل كانت حاضرة في سنين سابقة، ولعل أشهرها عملية خالد الجعيدي من مخيم الشابورة في رفح، في 24 كانون الأول/ ديسمبر 1986، حين طعن مجموعة من جنود الاحتلال والمستوطنين خلال تنقله بين المناطق الثلاث في قطاع غزة: سوق فراس، والساحة، وعسقولة، ليحمل خالد منذ ذلك الوقت لقب “مفجر ثورة السكاكين”.

وبعد أربع سنوات، وتحديداً عام 1990 قص عامر أبو سرحان عامل البناء الفلسطيني، صاروخ حفّ الحجر جزأين، واستخدمه سكيناً لقتل ثلاثة مستوطنين في حي البقعة غرب القدس انتقاماً لارتكاب الاحتلال مجزرة الأقصى في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 1990.

سلاح الفقراء يُدوي صداه
تكثفت عمليات إطلاق النار الفردية خلال انتفاضة الأقصى، وذلك لوفرة السلاح في تلك الفترة، إضافة إلى سعي الفلسطينيين لتصنيع واستحداث أسلحة جديدة يستخدمونها في عملياتهم، وقد برزت بنادق الصيد “الخرطوش”، لكن أسلحة “الكارلو” (سلاح الفقراء) كانت الأبرز والأكثر استخداماً، رغم عيوبها الكثيرة وسهولة تعطلها. وفي مقابل ذلك، كان الاحتلال يغلق ورشات تصنيع الحديد في الضفة، مع كل موجة لعمليات إطلاق النار، باعتبارها مصدراً للكارلو.

وتصاعدت عمليات إطلاق النار خلال هبة السكاكين عام 2015، بعد تراجع شهدته سنوات ما بعد انتفاضة الأقصى، كان من أبرزها عملية إطلاق نار نفذها الشهيد بهاء عليان ورفيقه الأسير بلال غنام في 13 تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته، حين وصلا إلى محطة الحافلات في جبل المكبر، وركبا الباص رقم 78 الممتلئ بالمستوطنين، وبعد أن سارا أمتاراً قليلة بدأ بلال إطلاق النار باتجاه المستوطنين وبدأ بهاء مهاجمتهم، وأسفرت العملية عن مقتل 3 مستوطنين وجرح أكثر من 20 آخرين.

وبعد عام 2015 شهدت عمليات إطلاق النار تصاعداً وتوسعاً مستمراً، كانت ذروتها عام 2023، وتحديداً بعد انطلاق معركة طوفان الأقصى في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وذلك بتنفيذ المقاومين نحو 2070 عملية إطلاق نار، وهذا تزامن أيضاً مع تصاعد نشاط الكتائب المسلحة في مخيمات شمال الضفة. في حين انخفضت عمليات إطلاق النار خلال 2018 – 2020، نتيجة للإغلاق الذي فرضه جيش الاحتلال وأجهزة السلطة الفلسطينية على الضفة خلال انتشار فيروس كورونا.

لقد شكلت العمليات الفردية هاجساً لدى الاحتلال، إذ وُضعت دولة الاستخبارات أمام تحدٍّ كبير في مواجهة نوايا غير مرئية لا يمكن رصدها لشخص قرّر المقاومة. وعلى ما في هذه العمليات من مقاومة فردية، فإن استمرارها جعلها في نهاية المطاف عملاً جماعياً رسم ملامح فترة زمنية، متفوّقاً على عيون “إسرائيل” وتقنياتها، “وإنما السيل اجتماع النقط”.

ثائر حسن – متراس

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد