عاودت إسرائيل حربها على غزة فجر الثامن عشر من مارس 2025 ضاربة عرض الحائط باتفاق وقف إطلاق النار بعدما أخلَّت بالتزاماتها التي تضمنتها بنود المرحلة الأولى. هذا السلوك الإسرائيلي الذي جاء بتنسيق مسبق مع الولايات المتحدة الأمريكية أثار ردود فعل عالمية. وقد كان موقف الصين إزاء ما قامت به إسرائيل متسقاً مع مجمل رؤيتها ليس فقط حيال جولة التصعيد التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، وما تلاها من تجويع وتدمير وإجبار الفلسطينيين على النزوح، وإنما من مجمل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وطريقة التعامل معه وصولاً إلى تسوية عادلة تضمن حقوق الفلسطينيين.
حرص صيني على وقف إطلاق النار
طوال شهور الحرب الخمسة عشرة، كانت الصين تلح على ضرورة وقف إطلاق النار. وقد كانت النقطة الأولى في ورقة الموقف التي طرحتها بعد أقل من شهرين لاندلاع حرب غزة الأخيرة بخصوص تسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تتضمن “وقف إطلاق النار وإنهاء القتال على نحو شامل”، بحيث يتم تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة، وأن يقوم مجلس الأمن بدوره انطلاقاً من قراره رقم 2712 الصادر في الخامس عشر من نوفمبر 2023. وعندما تم التوصل إلى اتفاق بهذا الخصوص في الخامس عشر من يناير 2025، رحبت بكين بذلك آملة في أن يكون هناك تنفيذ فعال له، بحيث يتم الوصول إلى “وقف شامل ودائم” لإطلاق النار. وقد أكدت على الاستمرار في تقديم المساعدات الإنسانية، إضافة إلى إبداء الاستعداد للمعاونة في عملية إعادة إعمار غزة. ويأتي هذا اتساقاً مع النقطة الثالثة في ورقة الموقف المشار إليها والخاصة بـ”ضمان الإغاثة الإنسانية” بحيث لا يتم “حرمان المدنيين في قطاع غزة من المستلزمات والخدمات التي لا غنى عنها للبقاء”، حسب ما ورد في القرار 2712. ليس هذا فحسب، بل إن بكين طالبت المجلس بالتشجيع على زيادة المساعدات المقدمة في ظل الأوضاع الإنسانية المتدهورة، وأن يكون هناك دعم تام لما تقوم به الأمم المتحدة من تنسيق لتلك المساعدات بما في ذلك وكالة الأونروا، التي تتعرض لهجوم إسرائيلي دائم، وأن يكون هناك دفع باتجاه إعادة إعمار غزة عقب توقف الحرب.
هذا الموقف المبدئي للصين نابع من قناعة بضرورة حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة. ومن ثم فإن بكين رفضت تماماً كل ما طرح بخصوص تهجير الفلسطينيين من القطاع، مع التأكيد على مبدأ “الفلسطينيون يحكمون فلسطين”. واتساقاً مع الموقف ذاته، رحبت بكين بالخطة المصرية التي اعتمدتها القمة العربية الطارئة في الرابع من مارس 2025، مع الدعم الكامل للجهود المصرية والعربية الرامية إلى ضمان تنفيذ وقف إطلاق النار، واستمرارية وصول المساعدات لسكان غزة، بما يمهد لعودة الأمن والاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط كاملة. إذ أن بكين على قناعة بأن التوترات في المنطقة مردها ما يحدث في غزة. وعلى ذلك، فإن معاودة إسرائيل عملياتها العسكرية مرفوضة تماماً من جانب الصين. وقد كانت بكين واضحة بعدما عاودت إسرائيل هجماتها على غزة في تأكيد ضرورة أن تتوقف الإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بما في ذلك العمليات العسكرية التي أدت إلى إخراج الآلاف من سكان المخيمات من ديارهم، خاصة في ظل عمليات الهدم المتعمد لمنازل الفلسطينيين. كما أنها أكدت على ضرورة توقف الاستيطان، وكذلك عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة. وفي ظل ما يقال عن إمكانية ضم الضفة الغربية من قبل إسرائيل، فإن بكين أعادت التأكيد على معارضتها لأي عمليات ضم سواء طالت الضفة الغربية أو قطاع غزة.
التوصيف الصيني للسلوك الإسرائيلي
في اليوم نفسه الذي عاودت فيه إسرائيل غاراتها على قطاع غزة، جاء الرد الصيني على النحو التالي: “نأمل أن تعمل الأطراف المعنية على ضمان التنفيذ المستمر والفعال لاتفاق وقف إطلاق النار، والامتناع عن أي تصعيد، ومنع تفاقم الكارثة الإنسانية”. بطبيعة الحال، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تأتي على رأس الأطراف المعنية التي يمكنها ضمان ما تطالب به الصين. لكن الأولى أعلنتها صريحة بأنها قد استشيرت، بما يعني أنها قد أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل للعودة إلى العمليات العسكرية. ليس هذا فحسب، بل إنها تعفي حليفتها من أي مسئولية عن عدم الاستمرار في تنفيذ وقف إطلاق النار وتلقي بالمسئولية كاملة على الطرف الفلسطيني، والأكثر من ذلك أنها تدافع عما يقوم به الجيش الإسرائيلي في غزة.
هوس إسرائيل باستخدام القوة ينبغي التخلي عنه، هكذا عبرت الصين عن موقفها إزاء ما قامت به إسرائيل من خرق لوقف إطلاق النار. وتذهب بكين إلى أن هذا الاتفاق الذي جاء بعد جهود شاقة لا ينبغي الاستهانة به. ومن ثم، فإن عمليات إسرائيل العدائية مدانة صينياً، وهو ما يأتي انطلاقاً من قناعة صينية بأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لن يحل عسكرياً، وإنما المفاوضات هي السبيل لذلك. كما أن تجربة الشهور الخمسة عشرة أثبتت أن استعادة الرهائن لن يكون عبر “الاستخدام العشوائي للقوة”، بل على العكس من ذلك قد يعرضهم للمخاطر. وقد تصدت واشنطن لتفنيد ما ذهبت إليه بكين من وصف للهجمات الإسرائيلية بالعشوائية. كما أن الرواية الأمريكية بخصوص الإفراج عن الرهائن تتعارض تماماً مع الرواية الصينية وتتطابق مع الرؤية الإسرائيلية، بينما الطرح الصيني يقترب مما يطرحه الجانب الفلسطيني.
وقف إطلاق النار لا ينبغي القيام بما من شأنه “تغييره أو تقويضه في منتصف الطريق” وعلى العكس من ذلك يجب أن ينفذ “بشكل كامل وجدي وبنية حسنة”. رفقة ذلك تعارض بكين تسييس المساعدات الإنسانية التي يجب ضمان وصولها إلى الفلسطينيين الذين هم في أشد الحاجة إليها. إذ أن تسييس المساعدات واستخدامها كسلاح فيه انتهاك واضح لقواعد القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني. وترى الصين أن على إسرائيل الالتزام بوصول المساعدات بصفتها القوة القائمة بالاحتلال، وأن يعود تدفق المساعدات فوراً وبصورة كاملة.
ماذا بعد التوصيف؟
الموقف المبدئي الصيني واضح ولا يحتمل أي لبس بخصوص الحقوق الفلسطينية، وإدانة كل ما من شأنه الجور على تلك الحقوق. لكن يبقى السؤال: ماذا عساها أن تفعل الصين حتى تتحقق الرؤية التي تطرحها؟.
قد يذهب البعض إلى أن الصين لا تسلك نفس ما تذهب إليه الولايات المتحدة الأمريكية من ترجمة مواقفها المعلنة إلى تصرفات على الأرض. فالأخيرة تدعم وبشكل مطلق ما تسميه دفاع إسرائيل عن النفس، وتفتح لها مخازن الأسلحة، وترسل بوارجها دعماً لها، وتهدد وتتوعد وتضرب كل من يجاهر بالوقوف مع المقاومة الفلسطينية. وفضلاً عن كل ذلك، تمثل مظلة حماية لإسرائيل في المنظمات الدولية، وهذا أمر مستقر في السياسة الأمريكية ولا علاقة له بما إذا كانت الإدارة ديمقراطية أو جمهورية، مع وجود بعض التمايزات النسبية الطفيفة التي لا يمكن أن تخل بثوابت الموقف الأمريكي.
وعلى الرغم من أن بكين لا تقوم بما تقوم به واشنطن في هذا الصراع، إلا أن الأخيرة تنتقدها على مواقفها المبدئية وتوصيفاتها لما يحدث. ففي بداية الحرب على غزة، كان النقد الأمريكي واضحاً وعلنياً لبكين حول عدم إدانتها الصريحة لحركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر. ومرة أخرى، فإن الصين لا تنظر إلى ما حدث في ذلك اليوم بمعزل عما قبله من عقود من ضياع الأمل بالنسبة للفلسطينيين، وممارسات جائرة بحقهم. ولا تقبل واشنطن باستمرار توصيفات صينية من قبيل عشوائية استخدام القوة من قبل إسرائيل دون أن ترد عليها.
الصين تقوم بما تراه ممكناً من حيث تأييد الحقوق الفلسطينية، والتصدي في المنظمات الدولية لمحاولات وأد هذه الحقوق. وفي الوقت نفسه، تعمل جاهدة على أن تكون هناك وحدة في الصف الفلسطيني. ومن ثم، فإنها رعت اتفاق المصالحة بين أربعة عشر فصيلاً فلسطينياً، في الثاني والعشرين من يوليو 2024، بينما كانت الحرب في غزة على أشدها.
قد يقال إن توقع قيام بكين تجاه الفلسطينيين بنفس ما تقوم به واشنطن حيال إسرائيل غير عملي، بل وقد يكون فيه نوع من الشطط الفكري أيضاً، وذلك نظراً لمتغيرات كثيرة، من بينها طبيعة النهج البرجماتي الذي تتبعه السياسة الخارجية الصينية من ناحية أولى. ومن ناحية ثانية تعقد وتشابك علاقات الصين مع الولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك قضايا جوهرية تخص صميم الأمن القومي الصيني. ومن ناحية ثالثة عدم توقع أن تزايد الصين على الدائرة القريبة من أصحاب القضية أنفسهم.
لا يمكن فصل موقف الصين من القضية الفلسطينية عن مجمل مواقفها من القضايا الإقليمية المطروحة في الشرق الأوسط، سواء تلك التي تشعبت عن الصراع في غزة أو تلك التي لها مسارات أخرى مثل البرنامج النووي الإيراني. إذ استضافت بكين، في الرابع عشر من مارس 2025، اجتماعاً ثلاثياً ضمها وموسكو وطهران، وطرحت نقاطا أساسية لتسوية هذه القضية، والتي تحتاج إلى هدوء وضبط نفس وعدم تصعيد من كل الأطراف وفق الرؤية الصينية. وتذهب بكين إلى أنه في ظل استمرار إسرائيل في انتهاك سيادة لبنان وسوريا رفقة ما تقوم به في غزة والضفة الغربية يهدد الاستقرار في الشرق الأوسط. كما أن التصعيد في اليمن والبحر الأحمر يزيد من خطورة الوضع. ومع مطالبتها بتوقف الغارات العسكرية على اليمن واحترام سيادته، فإنها تطالب الحوثيين بضرورة وقف هجماتهم ضد السفن التجارية وعدم تعريض الملاحة في البحر الأحمر للخطر.
الصين تتعامل مع ملف الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ضمن منظور واضح يتضمن نقاطاً محددة تحكمها مبادئ مستقرة. وفي هذا السياق، كان تعاطيها مع الحرب في غزة بكافة مراحلها. ومن هنا، يمكن القول إن هناك الكثير الذي يمكن القيام به عبر التنسيق بين الصين والدول العربية في ظل التأييد الصيني الواضح للمواقف العربية المبدئية من القضية الفلسطينية.
السيد صدقي عابدين – مركز الأهرام
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.