ثمّة وقائع تجعل من الصعب التفريق بين الأعداء. وثمّة أحداث تجعل أفعال أي جهة تحدّد في أي موقع تقف. وهذه حال لا يمكن تجاوزها في بلد كلبنان.
حتى قبل اندلاع الحرب مع العدو، كان في لبنان من يقفون إلى جانب إسرائيل ويساعدونها ليس في شيطنة المقاومة فحسب، بل في كل ما يحقق لها هدفها بسحق هذه المقاومة. وهؤلاء ليسوا طارئين على المشهد اللبناني. بل كانوا موجودين من قبل قيام كيان الاحتلال. بينهم من كانت له علاقاته مع المنظمات الصهيونية التي أسّست لقيام الكيان. وبينهم أيضاً من تواصل مع الوكالة اليهودية العالمية وباعها أراضيَ، ومن تحالف معها عشية قيام الكيان، ومن أقام معها علاقات أمنية في العقد الأول من عمر الكيان، ومن وقف إلى جانبها في كل الحروب التي خيضت ضد العرب. وهكذا، كان في لبنان من غيّر نظرته إلى مستقبل البلاد ربطاً بوجود مشروع عنصري اسمه إسرائيل.
هذه الخلافات هي التي منعت فعلياً، وليس لفظياً، اتفاق اللبنانيين جميعاً على أن إسرائيل هي العدو. كل كلام يقال في الخطب والبيانات والتصريحات لا قيمة له، عندما يخرج من اللبنانيين من يرى الخطر على البلاد في ناس من أهله، ولا يرى الشر آتياً من الكيان. هؤلاء هم من برّروا ولا يزالون حصول تعامل جماعي مع العدو في العقود الماضية. وهم أنفسهم الذين يرفضون توصيف من قاتلوا مع جيش الاحتلال في الجنوب بالعملاء، واعتبروا القتال الذي استمر سنوات حتى طرد الاحتلال عام 2000 جزءاً من الحرب الأهلية، فتصرفوا مع المقاومة كميليشيا ومع سلاحها كسلاح من قاتلوا في الداخل، وهم من يريدون أن يشمل العفو كلَّ من تعامل مع إسرائيل حتى بعد توقف الحرب الأهلية. وهؤلاء لم يوافقوا يوماً لا على مبدأ المقاومة، ولا حتى على الإتيان على ذكرها في البيانات الوزارية، ويرفضون اعتبار 25 أيار عيداً وطنياً للتحرير، ويفضّلون أن تُسمى شوارع بيروت بأسماء الغزاة الغربيين، ويعارضون أن تُسمّى بأسماء شهداء المقاومة.
لم يكن أهل المقاومة يوماً غافلين عن هذه الحقيقة. لكن فكرة حصر المعركة مع العدو كانت بقصد أن هزيمته ستسمح بإقناع هؤلاء بالتخلي عن خياراتهم وأوهامهم، الأمر الذي لم يحصل. وهو ما عشناه خلال عام ونصف عام بين اغتيال رفيق الحريري واندلاع حرب تموز 2006. وهو مناخ ظل قائماً بعد تلك الحرب المجنونة، وكانت ذروته في 5 أيار 2008، عندما قرّر هذا الفريق الاعتداء على المقاومة من خلال مد اليد إلى سلاح الإشارة الخاص بها.
هؤلاء أنفسهم دعموا خصوم النظام السوري بعد عام 2011، ليس كرهاً به فحسب، بل لأن سوريا كانت مركز دعم متقدماً للمقاومة، ومعبراً لسلاحها وعتادها. وهم أنفسهم دعموا المجموعات التكفيرية طوال 5 سنوات، واعتبروها مجموعات ثوار انتفضت ضد حاكم ظالم، وهم من لم يجدوا في موجات النزوح السوري مشكلة لأن رعاتهم الغربيين قالوا لهم إنه يمكن الاستعانة بالنازحين في مواجهة المقاومة، رغم أنهم يختزنون عنصرية مَقيتة تجاه كل ما هو سوري. وحتى عندما عبّروا عن فرحتهم بسقوط بشار الأسد، لم يسألوا عن هوية الحاكم الجديد لأن همّهم الوحيد أن ما حصل لا يفيد المقاومة.
ما خبرناه، في الأشهر القليلة الماضية، مع هذا الصنف من اللبنانيين مثّل ذروة الخِسّة والقرف. فقد شهدنا كيف نكّلوا يومياً بالمقاومة، وكيف تطوعوا لتشخيص رؤوس المقاومين لانتزاعها من مكانها. ولا جميل لأي من هؤلاء إن تحدّثوا عن تضامن أهلي مع النازحين، لأن هذا فعل إنساني موجود في كل الأرض. وأعداء المقاومة لم يمثّلوا يوماً – ولن يمثّلوا – غالبية لبنانية. لكنهم يحتلون اليوم مراكز ثقل رئيسية في البلاد. وهم كانوا يريدون للعدو أن يواصل حربه حتى القضاء على آخر مقاوم، ولم يخفوا غيظهم كلما سقط صاروخ في مواقع العدو، وكانوا يبخسون بكل فعل مقاوم على أرض الجنوب، وعملوا ليلَ نهارَ، قبل الحرب وخلالها وبعدها، على إشاعة أجواء الهزيمة، واعتبروا أن الدمار الذي ألحقه العدو هو معنى الهزيمة للمقاومة، علماً أنهم لو راجعوا يوميات قادتهم في حروب لبنان الأهلية، لصمتوا قليلاً على الأقل.
غبي من يعتقد بأنه يجر المقاومة إلى ردة فعل على عمليات الاستفزاز المتواصلة وتافه من صدّق أن العدو ربح الحرب وأن المقاومة هُزمت
واللؤم إن تمظهر على هيئة بشر، يمكن العثور عليه في وجوه هؤلاء، وليس في وجوه الإسرائيليين أو الأميركيين فقط. اللؤم عندهم فعل كامل، فيه كل الخِسّة والخبث وأعمال النكاية. هؤلاء، وهم من أبناء بلدنا، ساءهم أن النازحين ما كانوا يضطرون لمد اليد من أجل الطعام والسكن، كما ساءهم أن الناس سبقوا الفجر في رحلة العودة إلى بيوتهم، وساءهم أكثر أن تخرج المقاومة لتقول لشعبها وناسها إنها ملتزمة بوعد الشهيد الكبير بإعادة الإعمار واحتضان الناس. والمشكلة اليوم أن هذا الفريق لا يكتفي بالتعبير عن غضبه بالكلام، بل في أن من يقدّم أوراق اعتماده إلى السيد الأميركي، يعلن عن استعداده للقيام بكل ما يلزم لقهر المقاومة من خلال قهر ناسها. وهم يتطوّعون اليوم لشن حملة ضد إيواء كريم للنازحين، وضد ترميم سريع لبيوت تضرّرت وبالإمكان إصلاحها في وقت قصير، وهم حتماً، ضد إعادة إعمار الأحياء والقرى والطرقات والشوارع التي يسكنها أهل المقاومة.
ما يحصل في مطار بيروت ليس أمراً عابراً، وبمعزل عما إذا كان مانعاً فعلياً لوصول الأموال إلى المقاومة لتلبية متطلبات الإعمار، فإن المشكلة تكمن في العقل الذي يقف خلف هذه التصرفات. وهو ما يوجب مصارحة القائمين عليها، من رئاسة الحكومة إلى وزارة الداخلية وصولاً إلى قيادة الجيش. والقول لهم، إن كل اعتقاد بأنها أمور مقبولة أو يجب تفهّمها هو اعتقاد ساذج، لأنه يخفي ما هو أكثر من «تفادي غضب أميركا»، لكونه يتصل مرة جديدة بالانقسام الداخلي حول المقاومة وفكرتها.
خلال الحرب، قال الرئيس نجيب ميقاتي إن شروط عدم ضرب إسرائيل لمطار بيروت الدولي تحتاج إلى إجراءات خاصة، تمنع استخدام المطار من قبل المقاومة لنقل السلاح وخلافه من الأدوات المتصلة بالحرب. وبناءً عليه، صدرت قرارات بتكليف جهاز أمن المطار بالقيام بكل ما يراه مناسباً لضمان هذا الأمر، وحصلت أمور كثيرة أثّرت على حركة المسافرين، لأن بعض شركات الطيران غير اللبنانية كانت مستعدة لأن تواصل العمل في مطار بيروت، مثل الطيران العراقي والإيراني، لكن لبنان التزم مع الأميركيين بوقف هذا الخط الجوي. وتبيّن أن الأميركيين اشترطوا أيضاً ألا يستقبل لبنان أي مساعدات لها صلة بإيران، والكل يتذكّر الحوار الذي دار بين الرئيس ميقاتي والمسؤول الإيراني علي لاريجاني، عندما قال الأخير إن طهران تريد مساعدة لبنان مادياً، عبر الدولة أو من خلالها، وكان جواب رئيس الحكومة بأنه لا يمكن للبنان تلقّي المساعدات الإيرانية، ولا يوجد أي إطار يسمح بذلك.
في المقابل، كان مطار بيروت يستقبل طائرات الدعم الآتية من عواصم عربية ودولية، وربما من المفيد سؤال الجهات المختصة عن حجم المساعدات التي وصلت من هذه الدول، وأين أصبحت، وفي أي مخازن تمّ جمعها، وما الذي وصل منها إلى المعنيين بها، رغم الحملة الإعلامية الكبيرة التي رافقتها. لكنّ المشكلة صارت تتفاقم يوماً بعد يوم، عندما تبيّن أن وزارة الداخلية وقيادة الجيش وافقتا على أن يُسمح لفريق أمني – دبلوماسي أميركي بالتثبت من التزام لبنان بالشروط. وكان أن فُتح المطار، بكل ما فيه، أمام الأمنيين الأميركيين الذين كان بوسعهم التثبت من بطاقات الموظفين في المطار نفسه. وهم أنفسهم من وضعوا آلية التفتيش، ولاحقاً قالوا إنها آلية تشمل كل من وما يدخل إلى المطار، وكأنّ اللبنانيين لا يعرفون عن مطار حامات، أو عن المروحيات التي تنتقل من قبرص مباشرة إلى عوكر، أو لا يعرفون عن المواكب التي تصل إلى سلّم الطائرة لتحمل الزوار ويُترك لموظفين إنجاز معاملاتهم لاحقاً، ثم يأتي من يدّعي بأن الموفد الأميركي الفلاني مرّر حقيبته على آلة الكشف.
توقفت الحرب، وكان يُفترض أن تتوقف الإجراءات التي اتُّخذت خلالها أيضاً. لكن ما يحصل اليوم يعني أمراً واحداً، هو أن في لبنان قوى وقيادات سياسية وعسكرية وأمنية، وموظفين كباراً، يقدمون على أمور من دون سؤال أو تدقيق، وطبعاً من دون أي اعتراض على ما يصل غبّ الطلب عبر أمنيّ في سفارة أجنبية في بيروت، قبل أن يتم تعميمه عبر قناة «العربية» التي كانت خلال الحرب، ولا تزال اليوم، تلعب دور الناطق باسم جيش الاحتلال.
ما يجب أن يفهمه القائمون على هذا الأمر، بمعزل عن رتبهم ومواقعهم وأدوارهم، هو أن الطموحات لتولّي مناصب كبيرة، من رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة أو إدارة مرفق أمني، لا يمكن تحقيقها من خلال إرضاء الوحش الأميركي، ولا من خلال ترهيب الناس، أو محاولة الاعتداء على كرامة أهل المقاومة وناسها، ومن يقوم بهذا الفعل، إما غبي يعتقد بأنه يجر المقاومة إلى ردة فعل على عمليات الاستفزاز المتواصلة، أو تافه صدّق أن العدو قد ربح الحرب وأن المقاومة هُزمت، ولم يعد لديها صوت يُسمع، أو قبضة ترتفع فوق الهامات…
ما يجري، لا اسم له سوى انخراط لبنانيين في الحرب الإسرائيلية المفتوحة ضدنا، ومن يضع منع الإعمار هدفاً له، عليه أن ينظر من حوله جيداً، وألا يتفاخر بعضلات الآخرين، وأن يتذكّر بأن هذه البلاد، لم يقدر عليها جيش كبير، أو طاغية مستبدّ، أو عميل فاسد.. وهي أرض لم تودّع بعد كل شهدائها، لكنها، سترسم قريباً، للناس في لبنان وللأعداء في الخارج، صورة ناسها وأين يقفون، وستعيد تظهير حقيقة أهل المقاومة المستعدين لما هو أكثر مما يظن العملاء، إذ يعرف الجميع أن أهل المقاومة يكونون دوماً حيث يجب أن يكونوا… عسى أن يدخل القادر بعض الحكمة إلى ما تبقّى من رؤوس، قبل أن يقضي عليها البخار!
إبراهيم الأمين – الاخبار
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.