قامت المقاومة بواجب الدولة والجيش بعدما عجزا عن القيام بالواجب، أحياناً بسبب إهمال المنطقة الجنوبية التي تتعرّض للتنكيل الصهيوني منذ عام 1948 والتخلي عنها، أو بسبب الضعف وعدم امتلاك وسيلة لحيازة القدرة العسكرية، أو بسبب تنسيق الدولة لسياساتها الاستراتيجية والجزئية مع الولايات المتحدة التي تريد للكيان الصهيوني أن يكون مهيمناً وتوسّعياً.
استطاعت المقاومة، بكلفة هائلة وبمعركة استمرت 18 عاماً، تسجيل أول انتصار عربي على الكيان الذي حاول بعد سنوات عدة الانتقام لإخراجه من الأراضي اللبنانية، بشنّ حرب مدمّرة عام 2006. انتصرت المقاومة في هذه الحرب أيضاً، ومنعت إخضاع لبنان واحتلاله، وطردت الغزاة بعد واقعة وادي الحجير. بعدها لجأ الصهاينة والولايات المتحدة ودول عربية عدة إلى تسعير حرب مذهبية سمحت بولادة «داعش»، كمشروع توسعي إلغائي تصدّت له المقاومة دفاعاً عن لبنان خارج الحدود، وتمكّنت من منع توسّعه إلى لبنان.
دفعت المقاومة ثمن غياب الدولة وفشلها وتواطؤها وعجزها وتبعيتها واستغراقها في الفساد والنهب والمنازعات السياسية، وتحويلها الشؤون الوجودية للبنان إلى الدرجة الثانية من الاهتمام، ودفعت الثمن دائماً، منذ عام 1948، من مجتمعها ومقاتليها آلاف الشهداء والجرحى والأيتام والعائلات الثكلى.
في الفترة بين عامي 2006 و2023 الخالية من القتال المباشر مع الكيان، كانت التصريحات الرسمية الصهيونية تؤكد بوضوح النوايا العدوانية، وكانت مناورات جيش الاحتلال طوال تلك السنوات تحضيراً للعدوان، ومحاولات العدو منع المقاومة من امتلاك أسلحة كاسرة للتوازن، مؤشّراً واضحاً إلى تلك النوايا.
بالنسبة إلى الدولة والأحزاب اللبنانية التي لا تعتبر نفسها معنيّة بالتهديد الداهم للجنوب وأهله، لم تكن تلك التحضيرات والتهديدات والمؤشرات موجودة على موجات الإذاعات التي تنصت إليها، وربما لم يسمع كثيرون بها أصلاً، لأن وجود الدولة لا يعنيهم إلا بما يسمح لهم باستغلالها، أما حدودها وأمنها ومستقبلها فمسألة لا تخصّهم، لا بل إن بعضهم حين يقف إلى جانب المقاومة، التي هي البديل الأمني للدول العاجزة المضمحلّة تحت الهيمنة الأميركية، يعتبر أنه يقدّم خدمة للمقاومة، فيما هو يؤدي خدمة لنفسه ولعائلته وبيته ووطنه لا أكثر.
بعد مسار التهديدات والتحضيرات طوال سبعة عشر عاماً، جاءت الحرب في غزة لتنقل الكيان من حالة المساكنة مع وجود حركات المقاومة، إلى مستوى العمل على اجتثاثها والانقضاض عليها. وقد أقدمت المقاومة على المشاركة المحدودة مراعاة للظروف والشروط اللبنانية، وهي الشروط نفسها التي تقف خلف تفكّك الدولة ومفهوم الوطنية وتخلّف التفكير الأمني الوجودي لدى النخبة السياسية.
بدأت المقاومة إسنادها من مساحة المشروعية التي يكفلها الدستور والقانون والبيانات الوزارية، واستهدفت مواقع يحتلها الصهاينة في أراضٍ لبنانية في مزارع شبعا، فكان الرد في اليوم التالي خارج نطاق المواجهة، إذ بدأ العدو بقصف بلدة عيتا الشعب موسّعاً دائرة النار، وخلال ثلاثة أيام اتّخذ قراراً بإخلاء 42 مستوطنة حدودية يعتبرها ضمن خط الصراع، في سابقة تاريخية منذ تأسيس الكيان، فخلق أزمة عميقة لنفسه.
انتقال العدو الصهيوني من حالة المساكنة والردع إلى حالة الاجتثاث والمواجهة، فرض على المقاومة حكماً أن تبدأ بالتحضّر لهذه المرحلة، والتدرّج في التصعيد والتأثير، مع الالتفات دوماً إلى المرض اللبناني الداخلي. وهي لو دخلت الحرب في الأيام الأولى بعد عملية طوفان الأقصى، لربما كانت من الناحية العسكرية قد تفادت الكثير من الخسائر التي نالت من جسمها مباشرةً، لكن حرص المقاومة، وتحديداً الحرص الشخصي للشهيد السيد حسن نصرالله على مجتمع المقاومة أولاً، كونه يدفع كل الفاتورة عادةً أو أغلبها، وعلى لبنان ثانياً من أن يدفع ثمن قيام المقاومة بواجب أخلاقي وشرعي واستراتيجي، كل ذلك دفع المقاومة إلى الحرص على تفادي الحرب، إلى درجة سمحت للعدو بالانتقال إلى الهجوم المباغت. وهنا يمكن القول بوضوح إن المقاومة وسيدها دفعا الثمن بالحياة والدم والأرواح لحماية لبنان.
الصراع العسكري هو مساحة للمفاجآت والمباغتة، والتداعيات غير المحسوبة، والتدحرج غير المتوقّع، وكذلك ساحة للتنافس في ممارسة الصدمات والتسلل التدريجي. لذا، من الطبيعي أن تتعرض المقاومة لهجوم مباغت، سمحت به طفرة تكنولوجية متسارعة لم يكن بالإمكان مواكبتها. وحماية البلاد لا تعني منع الحرب مطلقاً، فعندما تبدأ الحرب ننتقل من حالة الحماية إلى حالة اختبار القوة، وعند النجاح في الاختبار تستعاد الحماية والردع. وعندما تعيش في جانب حالة عدوانية توسعية ستكون عرضة للحروب والتعدّيات، وهذا لم يتوقف منذ عام 1948، بوتيرة وأشكال مختلفة.
من فشل في حماية لبنان ليس المقاومة، التي عملت بقدرات بسيطة في البداية، واستطاعت التطور بجهود هائلة وبأثمان دموية باهظة، وانتقلت إلى بناء حالة الردع بتضحيات غالية لم يشارك فيها من ينصّبون أنفسهم مراقبين، مثل اليونيفل، لتقييم أدائها في الحرب والتضحيات الجسام التي تدفعها. من فشل في حماية لبنان، هو من لم يعتبر أمن لبنان مسؤوليته، ولم يتابع مجريات الصراع وأن العدو كان يحضّر للحرب منذ عام 2006، ولم يدرك مدى استنزاف المقاومة وانشغالها في مقاومة «داعش»، ولم يهتم إلا بكيفية خوض صراعاته الحزبية الداخلية أو الخارجية لتطوير موقعه في البيئة السياسية. من فشل في حماية لبنان هو الدولة الخاضعة للسفارة الأميركية في كثير من شؤونها، وأولها تسليح الجيش بالمطارق والمعدات غير القتالية التي يرسلها البنتاغون، كتحديد لدور الدولة وسقف لإمكاناتها، مانعاً أي تسليح روسي أو إيراني أو تركي أو حتى موزمبيقي.
بعض الفاشلين الذين لم يشاركوا في حماية بلادهم ولم يدفعوا الأثمان ولم يبذلوا التضحيات، يقفون اليوم على المنابر، ليعطوا تقييماً للمقاومة في مجال لم يخبروه ولم يجرّبوه ولم يغبّروا أحذيتهم بميدانه يوماً. ووقوفهم اليوم على المنابر هو استمرار للانتهازية السياسية نفسها التي قادت لبنان طوال تاريخه، وحوّلته من دولة إلى مزرعة. يقفون بكل استخفاف أمام مقاومة قدّمت أمينها العام وقادة مجلسها الجهادي والمئات من كوادرها حراسة للبنان من الدخول في حرب، وهي الآن تقدّم المئات من خيرة شبابها ويقدّم مجتمعها الآلاف من الشهداء ويضحّي ببيئته العمرانية، ليبقى لدى البعض القدرة من موقع المتفرج على إعطاء الشهادات للمضحّين والمستهدَفين والمكلومين بفقدان قائد التحرير وصانع عزة لبنان.
هادي قبيسي – الأخبار
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.