لا يتوقف حلم المشروع الاستعماري في فلسطين عن الرغبة الجامحة في إبادة الفلسطينيين، وإن عجز عن ذلك، فلا أقل من تخريب هويتهم وتدمير معنى وجودهم. وقد تكون وسائل التواصل الاجتماعي إحدى الأدوات الجديدة لدى دولة الاحتلال لتنفيذ ذلك، أو بالحد الأدنى لصناعة فلسطيني جديد “محب للسلام”،، ومُباد سياسياً، في ظل العجز عن إبادته كلياً.
تشير التقارير إلى أن دولة الاحتلال خصصت بعد حدث العبور الكبير في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت أكثر من 13 مليون دولار، لتقديم روايتها لمجتمعات “العالم الأبيض” لزيادة الشرعية واستجلاب الدعم لمزيد من القتل، وتبني سردية الحرب ضد “البربرية”، في تكثيف لعملها السابق على وسائل التواصل الاجتماعي وتركيز عليه، إذ تولي دولة الاحتلال اهتماماً من أعلى المستويات لوسائل التواصل الاجتماعي، وتعي تأثيرها ودورها في تعزيز السردية الصهيونية، ولذا عمد قادة الاحتلال منذ الأيام الأولى للحرب إلى عقد لقاءات مع إعلاميين ومؤثرين لتعزيز روايتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشرت أخبار عن محاولات “شراء ذمم” بعض الناشطين على مستوى العالم.
الأدوات والطرائق بين المباشرة والإقناع
منذ عام 2011 ظهرت صفحة “إسرائيل تتكلم بالعربية” على فيسبوك، والتي تديرها وحدة تابعة لوزارة خارجية الاحتلال، ثم انتشرت صفحة باسم “المنسق” عام 2015، ويديرها فريق منسق أعمال الحكومة في المناطق المحتلة. وبدأت هذه الصفحات تهتم بمخاطبة الفلسطينيين بلغتهم، والإجابة على استفساراتهم. ويندرج هذا السلوك الجديد ضمن مساعي الاحتلال لإيجاد مساحات يقدم من خلالها صورته كمشروع لتطوير الشرق الأوسط والعرب، وإظهاره بأنه يحارب “الإرهاب”، ويرغب في نشر “السلام والمحبة بين الشعوب”.
بعد هبّة القدس عام 2015، وما رافقها من تدوينات على منصات التواصل تدعم المقاومة وتحتضن الفاعلين فيها، أنشأ جهاز مخابرات الاحتلال “الشاباك”، في الفترة 2016- 2018، عدة صفحات أُخرى حملت أسماء وعناوين عربية لمخاطبة المواطنين الفلسطينيين، مثل صفحات “الكابتن” التي يديرها ضباط المخابرات في كل منطقة. ثم تتابعت الصفحات ووظائفها وصار الحديث عن جهات متخصصة تديرها وتتابعها وتعنى ببث المحتوى فيها، بالإضافة إلى فرق ترصد المحتوى الفلسطيني وتتابعه وتضيّق عليه الفضاءات الرقمية.
وهي سياسة استعمارية مرعبة كثفها الاحتلال مع حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة، وسعيه لتهجير الفلسطينين نحو سيناء عبر الدفع بالمواطنين إلى النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه. وكي يحقق مساعيه بكل الطرق المتاحة، نشط في بث المحتوى على هذه الصفحات التي تديرها أجهزته الأمنية، ثم أنشأ عدة صفحات جديدة على مواقع فيسبوك تخدم وتساعد جهوده المتوحشة على الأرض، ومنها صفحة “إنقاذ أهل شمال غزة”.
ومن خلال رصدي ومتابعتي لهذه الصفحة يمكنني القول بأنها حرصت على استخدام النصوص الدينية لاستمالة مشاعر الفلسطينيين وطمأنتهم بأن المتحدث “ناصح يريد الخير” لكم. وكان واضحاً أن الرسالة والهدف المباشر لهذه الصفحة، يتمثلان في تمرير مسعى الاحتلال الرامي إلى إفراغ شمال غزة من السكان.
ولذا نجد الصفحة تركز على فكرة أن الفلسطيني في غزة وحيد، ولا نصير له، بعد تخلي حركة “حماس” عنه، وذلك بهدف قتل معنويات الناس ودفعهم إلى الهجرة والنزوح مع شعورهم بالخذلان.
وهذا الأسلوب لم يكن موجهاً إلى غزة وحدها فحسب، بل ظهرت أيضاً صفحة تحمل اسم “هاجروا الآن” بتاريخ 18 تشرين الثاني/نوفمبر، تخاطب سكان الضفة الغربية بخطاب التهجير، ومما نشرته: “إلى العرب في يهودا وسامرة، هاجروا من أراضي الجدود إلى الأردن قبل فوات الأوان”، وقد سبق أن وزع هذا الموقع منشورات على بعض القرى انطوت على المضمون ذاته، واللافت هنا استحضار تعبير “أراضي الجدود” إعمالاً بالمبدأ الميكيافيلي الأمني، الذي يخاطب الفلسطيني كما يحب أن يُخاطب لتمرير الرسائل الهادفة لتحقيق غاية التهجير.
ومن خلال متابعتي للصفحة ولما نشرته، وبعد افتضاحها من خلال حديثها عن مخططات الاحتلال، حُذفت هذه الصفحة بعد يومين من إطلاقها، إذ انتهى دورها ورسالتها التي أراد الاحتلال إيصالها إلى الفلسطينيين في الضفة، كما أن الاحتلال لا يريد تداول تقارير تتهمه بإدارة مثل هذه الصفحات، لذا آثر حذفها وإنهاء الفكرة “الإلكترونية”، وتولى العمل على تحقيقها على الأرض.
التهديد والوعيد وهندسة الانفعال
يستخدم الاحتلال “الهندسة الانفعالية” كما يسميها الباحث المقدسي بلال سلامة، إذ يعرض الاحتلال من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، “عقوبة” الفعل المقاوم: وهي التدمير والقتل والهدم، وكذلك مكافأة “الهدوء” بحسب السردية الاستعمارية. وبهذا يكون الانفعال الشعبي مُهندساً مسبقاً، إذ نلاحظ ظاهرة منتشرة بكثرة في الخطاب الاستعماري تقوم على فكرة تقسيم المناطق إلى: خضراء وحمراء، فالمناطق الخضراء تعني الازدهار والتطور، دلالة على الهدوء، أي في حالة اللاعنف/اللامقاومة، أمّا المناطق الحمراء، فتشير إلى الخطر الدائم والترقب والحذر، دلالة على حالة مقاومة، وبهذا تصبح انفعالات المجتمع مهندسة سلفاً.
في 26 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، حاصرت قوات الاحتلال مخيم جنين، واعتقلت الشاب أسامة بني فضل، 20 عاماً، بتهمة تنفيذ عملية قُتل فيها مستوطنان اثنان في حوارة (آب/أغسطس 2023)، فنشرت حينها صفحة “الحقيقة تحكي” على فيسبوك، بلغة عربية ركيكة ما يلي: “إلى أهالي الضفة الغربية، هل اعتقدتم أن أسامة بني فضل المخرب من العملية في حوارة، يمكنه أن يختبىء من قوات الأمن الإسرائيلية؟ حقاً إنكم مخطئون”، إلى جانب عبارات التهديد واستعراض القوة وسادية الخطاب وغربة اللغة: “دولة إسرائيل ستصل إلى أي مخرب يختار الاختباء كالأرنب في أي مكان وفي أي وقت”، مرفقة بصورة لأسامة يحمل فيها قفص السجن، ومكتوب عليه هذا بيتي الجديد.
أراد جيش الاحتلال من خلال الإصرار على نشر أخبار إلقاء القبض على الشاب بني فضل استعراض قوته الاستخباراتية والعسكرية، والتذكير بمصير الفعل المقاوم. وهو ما لم ينجح به الاحتلال حتى الآن، لا ميدانياً ولا من خلال رسائله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما يبدو. فبينما تُكتب هذه السطور لا تنقطع الأخبار عن الاشتباكات مع قوات الاحتلال مع كل اقتحام لجنين ومخيمها.
في 29 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد عملية “الأنفاق” في بيت لحم، التي نفذها ثلاثة شهداء من الخليل (نصر الله وعبد القادر القواسمة وحسن قفيشة)، ظهرت على فيسبوك صفحة “طريق السلامة” وغردت بمنشور تقول فيه: “أطلقنا هذه الصفحة حتى تتكلم الحقيقة عن كل الأحداث الأخيرة. انضموا إلينا لسماع كل الحقيقة حول النشاط في الضفة الغربية”. هذه المباشرة في استخدام المصطلح العملياتي “نشاط”، المرتبط في المخيلة الإعلامية والشعبية الفلسطينية بعمليات الاقتحامات والاعتقالات التي ينفذها الاحتلال، تهدف بذكاء إلى استقطاب الجمهور وشده بهدف استيعابه وتقديم الرسالة السريعة المصممة مبسقاً له، وهو ما كان من خلال فيديو حمل رسالة “تحذيرية” إلى أهالي الضفة جاء فيها: “إن دولة إسرائيل ستضرب بيد من حديد وستعمل كل ما في وسعها لإفشال التخريب الموجه ضدها والذي يمس أمن مواطنيها”.
أمّا الصورة الشخصية للصفحة، فهي لشخص يقف أمام مفترق طرق، على يمينه طريق خضراء ربيعية، وعلى يساره أرض قاحلة خريفية، تجسيداً للفكرة الاستعمارية “العصا والجزرة”، ولتعزيز فكرة المنطقة الحمراء والمنطقة الخضراء.
“حياتنا أهم”، صفحة على فيسبوك، أُنشئت في شباط/ فبراير هذا العام، تخاطب العمال الذين يعملون في الداخل المحتل، من خلال منشورات تطالبهم بالابتعاد عن “الحركة من غزة”، مقايضة بتصريح العبور إلى مناطق 1948.
توجه الصفحة في إحدى التدوينات رسالة تحذيرية إلى أهالي الضفة تقول: “تأييدكم للحركة من غزة ما هو إلاّ إلقاء حجارة في البئر اللي بتشربوا منه..”. وقد أُرفق المنشور بصورة لمقر المقاطعة في رام الله، يعتليه شخصان يلقي أحدهما الآخر من أعلى المبنى بما يرمز إلى صورة مشابهة لأحداث الانقسام (2006 – 2007).
لا يتخفى الاحتلال في هذا المنشور، إذ يمكننا الشعور بحضوره ووقوفه مباشرة خلف هذه الصفحة وهذا المنشور، فهو يقول: “إن الحركة ضدنا لحالنا”، كأنه يوجه خطابه إلى عناصر من حركة “فتح”، لزيادة الفرقة بين أطياف المجتمع الفلسطيني.
وثمة صورة وشكل آخر لبرمجة العقول ومحاولات خلق فلسطينيين جدد منزوعي الإرادة السياسية، تقدمه صفحة “تكونش موسى” على فيسبوك، فهي تستعرض فيديوهات “إنمي”، تتضمن شخصية “موسى” الرئيسية، وحتى الاسم هنا في المخيلة الدينية العربية الإسلامية فيه إحالة ما. ويعلق على الفيديوهات على هذه الصفحة شخص يقول في أحد الفيديوهات، أن الشاب “موسى” اشترى له والده سيارة لكنه قام بزرع عبوة في الشارع، ما أدى إلى خراب الشارع، فغضب منه والده وجيرانه، ويختم الفيديو بعبارة: “تكونش موسى”.
وفي ذات الإطار قامت صفحة “International Providence SRL” على فيسبوك بمخاطبة الفلسطينيين في غزة بما يلي: “اكسب الكثير من المال مقابل معلومات موثوقة عن الرهائن في غزة. سلامتك مهمة. اتصالك سرّي. تواصل معنا”. مرفق فيديو يستعرض صور لبعض أسرى الاحتلال، وذلك بهدف السعي للوصول إلى أي معلومة تساعدهم في تحرير أسراهم من غزة.
الأمر نفسه تقوم به صفحة “فيدنا لمستقبل مشترك” على فيسبوك، وتعرّف عن نفسها بأنها: “صفحة لمشاركة المعلومات والأخبار لبناء مستقبل مشترك لكل من يريد العيش بسلام ومحبة على هذه الأرض”. أمّا الصور الشخصية والغلاف فهي لشخص يتحدث على الهاتف في الظل، في إشارة واضحة إلى العمالة – الجوسسة مع العدو. وكل محتويات الصفحة تحاول خلق فلسطيني “متعاون” مع عدوه لكن تحت مصطلحات مقبولة وغير مباشرة.
ولم تقف الجهود الاستعمارية عند هذا الحد، بل ذهبت إلى تطبيق واتساب، في محاولة أيضاً لإكمال المخطط والهدف المرجو، إذ قام جيش الاحتلال بتاريخ 14 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، باختراق سيبراني لمجموعة واتساب لمختبرات ميديكير الطبية في رام الله، وقام بإرسال رسائل تهديدية إلى المرضى تضمنت: “أنت لست مصاباً ولكن جيش الدفاع الإسرائيلي على وشك تفجيرك”.
وهناك روايات كثيرة عن اختراق مجموعات على واتساب، وقيام ضباط المخابرات بإرسال رسائل جماعية للمتابعين ومخاطبتهم وتهديدهم بالتصاريح والعمل، كما حدث في غروب واتساب اسمه: “بيت عوا بلدنا”، ما يجعل الأمر مفهوماً بوضوح أن المخابرات وضباطها وموظفيها المتخصصين هم من يدير مثل هذه الحركات والتصرفات التي يمكن وصفها بـ “الصبيانية”.
المباشرة في تحقيق الردع بالندية
أنشأ ضباط المخابرات، وينشئون، صفحات على منصات التواصل، وخصوصاً فيسبوك، للتواصل مع أهالي المناطق المحتلة المكلفين إدارتها أمنياً، في تجاوز وخرق واضح لاتفاقية أوسلو والتنسيق الأمني. وهو عمل لا ينفصل إطلاقاً عن دور الصفحات التي تخاطب الفلسطيني بمضامين وأساليب متنوعة، وإن اختلفت المسميات والجهات التي تديرها وتقف خلفها (جيش- مخابرات- مستعمرون)، فالهدف في النهاية واضح وأدوارهم متكاملة.
من خلال هذه الصفحات يحاول الضباط الظهور بشخصية العارف بتفاصيل الشخصيات والأمور، والناصح للفلسطينيين، والحريص على سلامتهم، ولذا يقومون بتحذيرهم من الاقتراب من أشخاص معينين. فمثلاً ثمة منشور على صفحة “كابتن عيد – مخيم الفوار” يتضمن تحذيراً من التعامل مع أحد الأشخاص بحجة أنه قيادي في “حماس”، ويحذرهم من أن التعامل معه سينتهي باعتقالكم.
أمّا، أبو جميل – مسؤول منطقة الريف الشرقي بيت لحم، فقد نشر على صفحته “طلاب جامعة أبو ديس” منشوراً عن مداهمة الجامعة ومصادرة مقتنيات وأوراق للطلبة بحجة أنها للكتلة التابعة لـ “الحركة التخريبية من غزة”، بحسب وصفهم. ثم يوجه نصيحة إلى الطلاب فيقول لهم: “بتوجه لكل الطلاب، لمصلحتكم الشخصية وعلشان مستقبلكم، ابعدوا عن نشاط الكتلة لأنه الثمن راح يكون غالي. كابتن أبو جميل، مسؤول جامعة أبو ديس”.
وهذه الظاهرة التي يديرها ضباط المخابرات أصبحت حالة عامة ومشهورة في فيسبوك، إذ تقوم صفحات متعددة لهؤلاء الضباط بنشر منشورات تتعلق بالتهديد والوعيد، وإعلان إلقاء القبض على أشخاص معينين بداعي التحدي، وكل ذلك لضبط المجتمع وتقييد حركة تفاعله مع قضاياه الاجتماعية والإنسانية والوطنية، من خلال الضغط والتهديد بالسجن وإيقاف التصاريح والملاحقة وتعطيل الحياة لهؤلاء المستهدفين والناشطين الذين لا يخضعون لمثل هذه التهديدات المبطنة بغلاف النصيحة.
ختاماً، من الواضح أن الاحتلال يرغب من خلال أدواته الإلكترونية الرقمية، في استغلال واحتلال الفضاءات العامة الافتراضية كالسوشال ميديا، ليكرس نهجه الأمني الاستخباراتي القائم على إنتاج حواجز ردع نفسية تساهم في ضبط الفلسطينيين، وقهرهم، وإصابتهم بالعجز، وإشعارهم بالمراقبة، وأن الاحتلال يتابع كل شيء، وأن الفلسطيني لا يستطيع أن يخطو أي خطوة من دون مراقبة الاحتلال التي تلاحقه حتى على غروبات واتساب وفيسبوك.
ومن الواضح أن سياسة الاحتلال هذه، بكل وتنوعها، يتم التعامل معها فلسطينياً باعتبارها حركات “صبيانية” لا معنى لها. ولذا يتندر الفلسطينيون على هذه الصفحات ويتعاملون معها بمنطق الجدي/الساخر أو بمعنى شعبي “مصدقك يا كذّاب”، أي أننا نعرف أنكم كَذَبَة، لكن علينا أن نظهر بطريقه توحي بأننا نصدق مثل هذا المحتوى الفارغ. ولأجل ذلك تفشل كل هذه الصفحات في خلق حالة حقيقية، ولأجل ذلك أيضاً يختفي بعضها، ويُعاد دائماً إنتاج صفحات أُخرى على أمل أن تخلّف أثراً مرجواً يساهم في خداع الفلسطيني وسلب وعيه وتمرير الرسائل المطلوبة.
مؤيد طنينة – مؤسسة الدراسات الفلسطينية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.