مخيم جنين للاجئين: اللجوء داخل الوطن

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

يعيش الفلسطيني حياته كلها لاجئاً في وطنه، وفي غربته، وفي سفره، واستقراره. يظل شعور اللاجئ ملازماً له، وعليه أن يثبت للعالم أنه فلسطيني، وأن فلسطين مكان موجود فعلاً. تخبرني عجوز في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، الذي أقيم في شمال الضفة الغربية لفلسطينيين هُجروا من بلادهم عام 1948، أن قبرها الذي ينتظرها في مقبرة المخيم هو أيضاً “منفى”، أو عنوان للجوء جديد، فاسم المقبرة لوحده يوضح ذلك: “مقبرة المخيم”. أخبرتني هذه الكلمات وضحكت.

حينما أخبر أحداً أن في فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) 27 مخيماً للاجئين الفلسطينيين[1] يصاب بالصدمة، ويسألني: “كيف يلجأ الفلسطيني داخل وطنه؟” لا أتعجب من هذا السؤال، فأنا أعلم جيداً حكاية الأهالي الذين يسكنون المخيمات، وأعلم أنهم هُجروا من بلادهم، وأن أجدادهم نصبوا خيامهم هناك على أمل أن يعودوا بعد أيام إلى بيوتهم وأراضيهم وقراهم، وظلوا 75 عاماً ينتظرون العودة. لكن ما يثير استغرابي هو كيف أن هؤلاء الناس، وعلى الرغم من كونهم في فلسطين، ظلوا متمسكين بالمخيم، وببطاقة التموين التي حصلوا عليها من وكالة الأونروا، وظلوا مصرين ومتمسكين بحلمهم بالعودة إلى بلادهم يوماً ما، ويورثون هذا الحلم لأطفالهم، بل يقاومون الاحتلال على أمل العودة يوماً.

تدمير رمزية المخيم

في 30 تشرين الأول/ أكتوبر، اقتحمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال الإسرائيلي مخيم جنين، وبدأت بتدمير البنية التحتية فيه، وقبل أن تنسحب توجهت الجرافات العسكرية إلى موقعين؛ الأول، نصب تذكاري شهير يقع على مدخل مخيم جنين الشرقي يسمى “دوار الحصان”، شُيِّد عام 2003 بالتعاون مع الفنان الألماني توماس كيلبر[2] خلال زيارته للمخيم مع ناشطين فلسطينيين، واستخدم الفنان صفائح الحديد من مركبات فلسطينية دمرها الجيش الإسرائيلي في معركة المخيم في نيسان/ أبريل 2002، بينها مركبة إسعاف كان يقودها الدكتور الشهيد خليل سليمان عندما قُتل في أثناء توجهه لإسعاف المرضى في المخيم.

ويعدُّ هذا التذكار رمزاً مرتبطاً بالمخيم، وبالمقاومة، وبصمود أهالي المخيم، إذ ظل هذا الحصان يقف شامخاً موجهاً نظره نحو حيفا، المدينة التي هُجِّر منها معظم أهالي المخيم. وقد قامت جرافات الاحتلال بتدمير الحصان، وحملت ما تبقى منه و”اعتقلته”، بحسب ما وصف أهالي المخيم المشهد.

وفي اليوم نفسه توجهت جرافة أُخرى إلى مدخل المخيم الرئيسي، وحطمت مدخل المخيم المسمى “الأقواس”، والذي يحمل مفتاح عودة ضخم كُتب عليه “محطة انتظار لحين العودة”. وبعد أيام عادت الآليات العسكرية التابعة لجيش الاحتلال لتدمير ما تبقى من رموز في المدينة والمخيم، بما فيها الشعار، ولمّا لم تنجح نفذ جيش الاحتلال اقتحاماً جديداً في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر، وحطم الحجارة التي ترفع هذا الشعار. كما دمرت الجرافات الإسرائيلية عدة ميادين في مدينة جنين ومخيمها، أبرزها “ميدان العودة” على المدخل الغربي لمخيم جنين الذي شيده أهالي المخيم وتعلوه خريطة فلسطين التاريخية، وتحيط بها أسماء المدن والبلدات التي هُجِّر منها أهالي مخيم جنين في نكبة 1948.

ودمرت الجرافات ميدان “البطيخة” المعروف في المدينة، وهو مرتبط بالبطيخ الذي اشتهرت جنين بزراعته في الماضي. وفي نهاية هذا اليوم بدأ أهالي المخيم بتداول النكات عن الحصان الذي كان شامخاً، وصار “حصان طروادة” وخان المخيم وبدأ بالاعتراف على النُصب التذكارية الأُخرى. وقد استوقفتني هذه النكات كثيراً، وتساءلت كيف استطاع أهالي المخيم الضحك والمزاح والخروج بهذه الكوميديا السوداء في ظل كل ما يعيشونه؟

استهدف الاحتلال أيضاً البنية التحتية في مخيم جنين، فجرف شوارع المخيم والشوارع المؤدية إليه، ودمر إمدادات الصرف الصحي فيه، فغرقت الشوارع بالمياه العادمة، وعندما حل الشتاء غرقت البيوت بالمطر. كذلك قام بمداهمة المنازل، وخرب محتوياتها، ودمر جدرانها وأبوابها، ورسم علم إسرائيل على جدران غرف المعيشة، وحطّم ألعاب الأطفال على شكل بندقية، واعتقل العشرات من الشبان في المخيم، الأمر الذي دفع بآلاف الأهالي إلى النزوح من المخيم.

بمجرد أن تبدأ الشمس بالغياب، يحمل أهالي المخيم ما يحتاجون إليه من أغراض في صباح اليوم التالي قبل توجههم إلى عملهم أو مدارسهم؛ هذه تحمل كتب أطفالها، وأُخرى ملابس النوم، وآخر يحمل بدلته الرسمية التي يرتديها خلال عمله في البنك، ويخرجون من المخيم ليعودوا في اليوم التالي، وهكذا كل مساء. يخاف الناس من الليل، فالليل هو اقتحام إسرائيلي للمخيم، ومداهمات للبيوت، وتدمير واعتقال ثم قصف وقتل، وكل ذلك في محاولة لتدمير رمزية المخيم، والالتفاف الشعبي حول المقاومة، والدعم المحلي للمقاومين في المخيم. هل نجحوا؟ يجيب الناس بصوت عال: لا.. يقولون أنهم يخرجون لأنهم يخافون على أولادهم، لكنهم يتركون أبواب بيوتهم مفتوحة للمقاومين، علهم يحتاجون إلى طعام أو منامة، أو حتى ليستخدموها كممر عبور بين بيوت المخيم المكتظة.

لماذا يخرج الأبطال من الكتب؟

“لماذا يخرج الأبطال من الكتب؟ هل لأنهم سئموا تكرار حكاياتهم في عيون القرّاء، فقرروا أن يستأنفوا حيواتهم ويعيشوا بشكل مختلف، راسمين لأنفسهم صوراً جديدة؟ أم لأن الكلمات كبرت بهم، فقرروا أن يعيشوا ويموتوا معها؟”[3]

ينسجم ما يقوله الياس خوري مع خطاب محمود درويش الذي ألقاه في بيروت، في أعقاب معركة 2002. فيتكرر الأبطال، وتتكرر حكاياتهم، وقصص التهجير التي يعيشونها، ويولد الطفل في المخيم ابناً لشهيد، ويتهجر جده من قريته، ويعيش كل طفولته ومراهقته وهو يعاني جرّاء ظلم الاحتلال، فكل شيء ممنوع منه لأنه ابن المقاوم، ويعيش وهو يرى جده يتحدث عن بلاده وقريته وشجرة التين التي كان يجلس تحتها، ويفقد جده الذاكرة لكنه لا ينسى حلمه بالعودة. يكبر هذا الطفل فيصبح مقاوماً وبطلاً لا يريد شيئاً سوى أن يعيش. ويتحدث عنه درويش قائلاً: “لقد اتصل مقاتل من مخيم جنين المحاصَر بصاحبه خارج المخيم قائلاً: احكِ لي نكتة لأضحك قبل استشهادي. قال صاحبه: كيف تضحك وأنت على حافة الموت؟ فقال: لأني أحب الحياة، أريد ان أودعها ضاحكاً”.[4]

بينما كنت أراقب المقاومين في مخيم جنين، كنت أتعجب من “خفة دمهم”، ومزاحهم حتى في أصعب الظروف، فالابتسامة كانت تعلو وجوههم معظم الوقت. قبل نحو أسبوعين، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، اغتالت قوات الاحتلال اثنين من قادة كتيبة جنين، وهي الكتيبة الأشهر والأشرس في الضفة الغربية في مقاومة الاحتلال، وهم محمد (حمودي) الزبيدي المعروف بالنش، ووسام حنون (أبو وطن)؛ أتذكر قبل عملية الاغتيال بيومين فقط، التقيت أبو وطن في مركبته المظللة تسير في شوارع المخيم المدمرة يتفقد عمليات إصلاح الشوارع التي دمرها الاحتلال في الاقتحام الأخير، ناديته فأوقف مركبته، وأخبرته أنني أريد إجراء مقابلة صحافية مطولة معه، وخصوصاً أنه هو اليوم القيادي الأول في كتيبة جنين؛ أبو وطن درس المحاماة وتخرج من الجامعة لكنه لم يحصل على فرصة لممارسة عمله، ولا حتى لارتداء “روب التخرج”، إذ قرر حمل سلاحه عوضاً عن ذلك، وقبل شهر فقد شقيقه الوحيد (وئام حنون) الذي استشهد في اشتباك مسلح مع جيش الاحتلال خلال اقتحام المخيم.

دار بيننا الحديث التالي:

أبو وطن أريد أن أجري معك مقابلة.

ليس الآن (..) تعبان والله يا شذا.

أكيد ليس الآن، في أي وقت تختاره لكن قريباً.

إن شاء الله (..) إذا ضلينا عايشين.

نظر في عيني وابتسم ابتسامة عريضة، فقابلته بابتسامة، فأكمل مسيره ووقفت مكاني. لم أعلم أن هذه الابتسامة ستكون الأخيرة، وأن جيش الاحتلال الإسرائيلي سينفذ عملية واسعة في المخيم لاغتياله، ويحتجز جثمانه وجثمان صديقه معه. كنت أريد أن أسأله: لماذا؟ ظل السؤال عالقاً.. لماذا اختار أن يحمل السلاح ويقاتل في المخيم بدلاً من أن يقاتل في المحكمة، لماذا؟

بعد أسبوعين على استشهاد أبو وطن شاهدت والده يجلس أمام منزل في المخيم، وكان الحزن ظاهراً على وجهه، توجهت إليه لأطمئن عليه وعلى زوجته التي لم تستوعب حتى اللحظة أنها خسرت ولدَيها الاثنين في شهر واحد (لا اعتقد أن هناك أماً قد تستوعب ذلك)، فسألته عن أحواله، أجابني: “الليل قاتل.. البيت في الليل يقتلنا، أمس نمنا ليلتنا الأولى في البيت بعد استشهاد أبو وطن، كل شيء يذكرنا بهما، كل حركة وكل صوت، لكن ما قتلنا تلك الليلة أنني حين عدت إلى البيت وضعت مفتاح البيت على الرف من دون أن أدرك، إذ منذ أن أصبح أولادي مطلوبين للاحتلال الإسرائيلي، أصبحنا نضع مفتاح البيت على رف يستطيعون الوصول إليه إذا عادوا في وقت متأخر من الليل، ليستحموا ويأكلوا ويرتاحوا، وحين رجعت إلى البيت ليلة أمس فعلت ذلك، وسمعت أمهما صوت المفتاح، وعدنا إلى نقطة الصفر، كأنها سمعت خبر استشهادهما لحظتها.. ابتسم وقال: هذا نصيبنا، وهذا قدرنا، فقدت أولادي الاثنين لكن كل أولاد المخيم أولادي، وهذا ما يواسيني.

ما زلت أذكر كيف نسي الناس اقتحام المخيم وتدمير البنية التحتية، وانشغلوا بقصة “البرندة”، حينما أرسل شاب فيديو ضاحكاً يخبر أصحابه عن غضب والدته لأن برندة بيتهم دمرتها جرافة جيش الاحتلال بعد أن قامت بتنظيفها قبل ساعات فقط، فأصبح هذا الشاب مشهوراً باسم “البرندة”، يجوب شوارع المخيم وينادوه الناس: “برندة.. برندة”، ويرد ضاحكاً بلا تردد.

لجوء داخل البلاد: قديم متجدد

مشهد اللجوء يتجلى كل مساء أمام مداخل المخيم؛ نساء وأطفال ورجال يحملون أغراضهم ويغادرون، كل يوم، وكل ليلة، يتكرر المشهد. رحلة اللجوء ليست جديدة بالنسبة إلى المخيم، فهي ذكرى نكبة متجددة، يهرب الناس من القصف والقتل والدمار والاقتحامات والإهانات. فأهل المخيم يعرفون أن الضفة الغربية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر أصبحت تحت قانون الحرب الإسرائيلي، إذ يستطيع الجندي الإسرائيلي أن يفعل أي شيء من دون أن يحاسَب أو يعاقَب، أو أن يجد من يسائله. وهذا السبب يدفع أهل المخيم إلى النزوح كل ليلة، ذلك بأنهم لا يعلمون متى سيكون الاقتحام المقبل، واقتحام الليل هو الأصعب، فـ “الليل قاتل”، كما قال والد الشهيد أبو وطن.

أتذكر المشهد في فيلم “جنين جنين”، في عام 2002 عقب معركة المخيم، حين خرج أهالي المخيم، ونصبوا الخيام في منطقة مفتوحة على أطراف المخيم (أصبحت اليوم مقبرة المخيم الجديدة). فقد دمّر الاحتلال بيوتهم وقتل العشرات، لكن الناس الذين قابلهم المخرج محمد البكري أجمعوا أنهم باقون على هذه الأرض، وأن المقاومة ستستمر، وأن أولادهم سيستمرون في نضالهم. لم يتغير شيء؛ ما زال الناس في المخيم يقاومون ويدعمون المقاومة، وما زالت بيوتهم تُهدم، ما زالوا يقولون بصوت عال: المهم أن المقاومين بخير؛ يخرجون إلى بيوت خارج المخيم لا إلى خيام تشهد على تهجيرهم مرة أُخرى.

هل تذكرون الرجل الأخرس في الفيلم؟ فقد أشار للمخرج إلى أن هذا بيته، وأن ذكرياته فيه، وسيظل فيه هو وأولاده وزوجته. هل تعلمون من هو هذا الرجل اليوم؟ إنه والد الشهيد جميل العموري، المؤسس الأول لكتيبة جنين، وهو أول من أطلق الرصاص على جيش الاحتلال خلال اقتحامه للمخيم عام 2020، وأول من أصدر بياناً مسلحاً باسم كتيبة جنين؛ ارتقى جميل واحتجز جيش الاحتلال جثمانه ولا يزال يحتجزه حتى اللحظة. وقد تبعه أصحابه وحملوا السلاح وقاوموا، ماذا يعني هذا كله؟ إنه يعني أنه حتى الرجل الذي اختاره البكري ليمثل الصمت في فيلمه عن مخيم جنين، كبر ابنه، وأصبح القيادي الأول في المخيم، وصار اسمه يُكتب على جدران كل البلاد، وينادى باسمه في جنازة كل شهيد جديد: “يا جميل العموري، أحضرنا لك الورد الجوري”، والورد الجوري هنا هو الشهيد الجديد الذي ارتقى برصاص الاحتلال.

تدفعني هذه القصص إلى الشعور بأن مخيم جنين للاجئين هو حالة فريدة، وحين أسأل نفسي كيف يعيش اللاجئ في وطنه؟ يظل الجواب أنه يعيش طوال حياته يقاتل ويقاوم ويحارب من أجل “الحياة”، من أجل أن يعود إلى بيت صغير سمع عنه في حكاية جده. هذه العلاقة التي تربط هؤلاء المقاتلين والأهالي بالمخيم هي علاقة غريبة، هم يسمون المخيم “محطة انتظار”، لكن يستمرون في التغني به وباسمه، وفي قتالهم دفاعاً عنه. وحين تسأل المقاوم لماذا يقاتل؟ قد يخبرك مرة أنه يقاتل من أجل المخيم، وحين تسأله مرة أُخرى سيقول لك: كي أعود إلى وطن أجدادي. سيظل شعور اللجوء يرافقهم طوال الوقت، وسيظلوا يحاربون ما دام هذا الشعور موجوداً لديهم، وربما هذا هو أحد الأسباب التي تدفع جيش الاحتلال إلى تدمير المخيم وتهجير سكانه، ظناً منهم أنهم يدمرون لعنة المخيم، من دون أن يعلموا أن شعور اللجوء سيظل يرافق سكانه، وسينتقل إلى أطفالهم، وسيكبر أكثر مع كل لجوء جديد.

[1] UNRWA.
[2] Thomas Kilpper Projects.
[3] الياس خوري، “أيقونات جنين”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 131 (صيف 2022.
[4] محمود درويش، “أبطال مخيم جنين”.

شذا حنايشة – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد