هل يستطيع اقتصاد روسيا الصمود أمام العقوبات الاقتصادية؟

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

في عام 2014 قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التدخل عسكريًا في أوكرانيا عبر ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا بالقوة ودون اعتراف دولي، وذلك ردًّا على الثورة المدعومة غربيًا التي أطاحت حكم الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش الموالي روسيا، ولم يتدخل الغرب بشكل مباشر في الأزمة؛ إلا أنه لم يبق متفرجًا عليها أيضًا، بل اختارت القوى الغربية فرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا، وعلى أفراد وكيانات روسية وقرمية على صلة بالأزمة.

تدحرجت كرة العقوبات الاقتصادية وأبقى الغرب عليها فعالة حتى يومنا هذا، لتشمل عشرات الشخصيات الرسمية والأفراد والشركات، وبشكل عام: مجمل التجارة بين كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة، وروسيا من جهة أخرى.

وشكلت العقوبات الاقتصادية تحديًا حقيقيًا للاقتصاد الروسي المتباطئ النمو أساسًا، إذ لم يرتفع النمو عام 2014 فوق 1% عن العام السابق، ودخل الاقتصاد الروسي حيز الانكماش في عام 2015، وبسبب أزمة القرم بدأ الروبل الروسي مسار انخفاض مطرد، حتى وصل إلى أقل قيمة له في عام 2016، ليكون سعر الصرف قريبًا من 80 روبل روسي للدولار الواحد، ولم يكد الاقتصاد الروسي يبدأ تعافيه من الأزمة في أعوام 2017-2019 حتى دخل العالم كله في أزمة اقتصادية عنوانها جائحة كورونا، فعاد الاقتصاد الروسي للانكماش بمعدل أعلى من عام 2015.

إذ دخل سعر الصرف في مرحلة من التذبذب العالي وفي عام 2020 وصل مرة أخرى إلى نفس حدود عام 2016، وفي عام 2022 أصبح الاقتصاد الروسي قريبًا جدًا من العودة إلى تلك المستويات المتدنية، وعليه فإن الناتج المحلي الإجمالي الروسي بسعر الدولار الحالي لا يتجاوز 65% من قيمته في عام 2013.

وفي هذا السياق تُقدر بعض التقارير خسائر روسيا سنويًّا بـ50 مليار دولار، وأن الاقتصاد الروسي لن يعود لوضعه السابق طالما لم تخضع روسيا للمطالب الغربية بخصوص القرم والدونباس، وعلى الرغم من أن العقوبات ترافقت مع انخفاض في أسعار النفط (أحد أهم موارد الموازنة الحكومة في روسيا) فإن ذلك لم يثن بوتين عن خياراته فيما يتعلق بأوكرانيا، بل أصر على المضي في الإبقاء على القرم تحت سيطرته، ودعم الانفصاليين في الدونباس.

لم يقف كل من روسيا والغرب عند حدود ما حصل في الأزمة السابقة؛ بل استمر الغرب في محاولة التوسع شرقًا وإدخال أوكرانيا إلى حلف الناتو، ولم تقف روسيا متفرجة على ذلك، بل استمر التصعيد المتبادل بين الطرفين وارتفع سقف العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي في عام 2018 عقب محاولة اغتيال للجاسوس المزدوج لصالح المخابرات البريطانية سيرجي سكريبال، في لندن، وعادت نذر الحرب مرة أخرى في نهاية عام 2021 عبر حشود روسية عسكرية على الحدود مع أوكرانيا، وتحذيرات غربية من اجتياح وشيك.

يهدد الغرب ممثلًا بالناتو بشكل عام، والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، بصورة متكررة بفرض عقوبات غير مسبوقة على موسكو في حال اختيارها قرار الحرب في أوكرانيا، وأن العقوبات القادمة سيكون لها أثر تدميري على روسيا واقتصادها ردًا على الاجتياح المحتمل، وحتى اللحظة لم تجتح روسيا الأراضي الأوكرانية، بل صدرت إشارات تفيد ببدء خفض التصعيد بين روسيا والغرب، إلا أن الخيار العسكري ما زال قائمًا، لذا يبدو ضروريًّا طرح السؤال حول أثر العقوبات الاقتصادية الجديدة في الاقتصاد الروسي في حال خاطر بوتين وقرر اجتياح أوكرانيا؟

«أم العقوبات الاقتصادية».. ما الذي ينتظر روسيا بعد الغزو؟
تحضر الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها حزمة عقوبات غير مسبوقة على روسيا، في حال قررت الأخيرة احتياح أوكرانيا، وقد اتفقت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا خلال الأسابيع الماضية على بحث حزمة العقوبات المحتملة، والتي وصفها بوب مينينديز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بـ«أم العقوبات الاقتصادية».

وقال الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن إن بوتين لم ير من قبل عقوبات اقتصادية مثل التي ينوي فرضها على موسكو في حال اجتياح أوكرانيا، كما أن جزءًا من هذه الحزمة قد يجري تطبيقه قبل الاجتياح أصلًا، وذلك ردًّا على التحركات العسكرية الروسية.

ولا يُعرف بعد حجم هذه العقوبات ولا تفاصيلها، ولكن المتوقع أن تشمل كلا مما يلي: الأفراد، والمؤسسات المالية، وعزل النظام المالي الروسي عن العالم، والدين العام، والقطاع التكنولوجي وصناعة الرقاقات الإلكترونية تحديدًا، شركات الطاقة ومشروع «سيل الشمال 2»، والعقوبات التجارية بشكل عام.

أولًا: الأوليجارشيا الروسية ومصالحها على خط النار
أحد أكثر أنواع العقوبات الاقتصادية استخدامًا من طرف الغرب، هو تحديد الأفراد الأغنياء المرتبطين بالنظام المراد معاقبته، وفرض عقوبات تتمثل في تجميد أصولهم ومنعهم من السفر إلى الدول الغربية، ويعتمد النظام الروسي على عدد من أصحاب المليارات وهم داعمون ومنتفعون من النظام ومساعدون له في مجال الأعمال، وقد يؤثر فرض عقوبات عليهم سلبيًّا في الاقتصاد الروسي.

وفي عام 2014 فرض الغرب عقوبات على عدد من أصحاب المليارات الروس من أصحاب العلاقات الوثيقة بالحكومة الروسية وببوتين شخصيًّا، وتعدد مجلة فوربس 11 شخصًا فرضت عليهم عقوبات في عام 2014، وثلاثة آخرين مرشحين لدخول القائمة ضمن حزمة العقوبات المحتملة القادمة، وتبلغ إجمالي ثروتهم الشخصية قرابة 60 مليار دولار، ولا يتوقع أن يكون لمثل هذه العقوبات أثر بالغ في الاقتصاد الروسي عامة.

ثانيًا: حصار النظام المالي الروسي على الطريقة الإيرانية
يشمل هذا النوع من العقوبات قسمين: الأول مباشر على المؤسسات المالية الروسية العامة والخاصة، ويهدف لعزل النظام المالي الروسي عن النظام المالي العالمي، مثلما حصل مع إيران في عام 2012.

يشمل هذا النوع فرض عقوبات شبيهة لما جرى فرضه على «بنك روسيا Bank Rossiya»، في عام 2014، وقد تشمل الخيارات الحالية توسيع هذه العقوبات لتشمل بنوك الدولة الروسية، وحتى إمكانية شمول بنوك خاصة في روسيا.

إلا أن مثل هذه الخيارات ستواجه صعوبة كبيرة نظرًا للعلاقة القوية بين البنوك الروسية الكبرى مع النظام المالي العالمي، وأي عقوبات ستفرض على البنوك الروسية ستترك أثرًا بالغًا سيصل صداه إلى خارج حدود روسيا.

أما الخيار الثاني والأكثر جذرية وقساوة فهو إخراج روسيا من الـ«SWIFT» بشكل كامل، وهو الآلية التي ينقل من خلالها العالم القيمة، وتمر من خلالها التعاملات المالية الدولية، ويعتبر هذا الخيار بمثابة «الخيار النووي الاقتصادي» على حد تعبير «نيو يورك تايمز New York Times».

إذ يعد هذا الخيار مخاطرة كبرى وصعب التنفيذ، ومجرد طرح احتمال استخدامه يعني الجدية الكبرى للعقوبات المحتمل فرضها على روسيا، ويعني وضع النظام المالي الروسي في الظلام حرفيًّا وعزله عن العالم، عانت إيران بسبب عقوبات عام 2012 التي تضمنت استخدام هذا الخيار من انكماش تجاوز 7% في ناتجها المحلي الإجمالي، علمًا أن روسيا مرتبطة أكثر من إيران بالنظام المالي العالمي.

ولن تكون مثل هذه الخطوة دون عواقب محتملة على فارضي هذه العقوبة أيضًا، نظرًا لأن الاقتصاد الروسي يساوي ضعف حجم أي اقتصاد آخر فُرضت عليه هذه العقوبة، وعليه قد تقتصر العقوبة على مؤسسات بعينها، وسيظل لمثل هذا الخيار أثر بالغ في الاقتصاد الروسي، وعلى المرتبطين بهذه المؤسسات خارج روسيا.

بحسب نيو يورك تايمز فإن الروس واجهوا مثل هذا الخطر في عام 2014، وقد قال الروس وقتها على لسان رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف أن اتخاذ مثل هذه الخطوة بمثابة إعلان حرب على روسيا، وتشير التقديرات إلى أن هذه الخطوة وحدها قد تؤدي إلى انكماش الناتج المحلي الروسي بـ5%.

وتبحث الولايات المتحدة وحلفاؤها سبل تخفيف حدة أثر مثل هذا الخيار خارج روسيا، وتحديدًا في أوروبا التي لن تستطيع استيراد المنتجات الإستراتيجية الروسية، مثل النفط والغاز، وعليه قد تعفى بعض القطاعات من مثل هذه الخطوة، إلا أنه إذا اعتبرت روسيا مثل هذه الخطوة إعلانًا للحرب، فإن ذلك يعني احتمالية وقفها لتصدير مثل هذه السلع لأوروبا.

ثالثًا: الدين العام الروسي
لا تلجأ الدول إلى تمويل ميزانيتها عن طريق الدين جزافًا، بل يكون الدين بمثابة تغطية لعجز الموازنة الحكومية، فقد يحتاج الاقتصاد للإنفاق أكثر من إيراده الفعلي، ويلجأ حينها للاستدانة من الخارج باعتبارها حل تلك المشكلة، إذ إن الإنفاق الزائد يكون عادة ضروريًّا للاقتصاد والنمو.

ومنذ عام 2014 تقلص الدين الروسي بنسبة 33% حتى الربع الثالث من عام 2021 بحسب رويترز، ورغم أن ذلك قد يبدو جيدًا للاقتصاد الروسي، فإنه ليس كذلك، فلم يتقلص الدين بسبب تقلص النفقات بشكل طبيعي، ودون الإضرار بالاقتصاد، ولكنه تقلص نتيجة للعقوبات الاقتصادية.

وقد يضيق الغرب الخناق على شراء سندات الدين الروسي في حزمة العقوبات القادمة، حتى تصعب على الحكومة الروسية مهمة إيجاد التمويل اللازم لإنفاقها، وسيساهم ذلك أكثر في ضرب فرص النمو في روسيا.

رابعًا: سلاح الاحتكار التكنولوجي الغربي
يعتمد الاقتصاد الروسي كثيرًا على استيراد الكثير من السلع ذات التكنولوجيا العالية من الغرب، مثل الرقاقات الإلكترونية وأشباه الموصلات، وهي سلع أساسية جدًا ولا بديل عن استيرادها من الغرب، وإذا كانت الصين تواجه خطرًا حقيقيًّا في حال حظر تصدير هذه السلع إليها، فمن باب أولى فإن روسيا تواجه خطرًا أكبر في حال اتخاذ مثل هذه الخطوة.

خامسًا: حظر التجارة من وإلى روسيا
نظرًا للاعتمادية المتبادلة بين أوروبا وروسيا في التجارة، بين صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا، ومستوردات السلع المختلفة من القارة العجوز، فإن استخدام مثل هذا السلاح بأعلى مستوياته سيكون له تبعات اقتصادية كبيرة على الطرفين.

ومنذ عام 2014 فُرضت عقوبات بالفعل على قطاعات الطاقة الروسية، والشركات المتعلقة بهذا القطاع، ويمكن أن تتعمق هذه العقوبات وتتسع في الأيام القادمة، إلا أن اليد الغربية مكبلة نسبيًّا في هذا الخيار نظرًا لاعتماد أوروبا على صادرات الطاقة الروسية.

ومع ذلك أصدرت برلين إشارات على استعدادها لفرض عقوبات على خط «سيل الشمال2»، وهو خط غاز جديد يربط روسيا بألمانيا، ومع أنه مكتمل البناء إلا أنه لم يبدأ العمل بعد نظرًا لعدم حيازته على الموافقة القانونية الكاملة لبدء العمل، وقد تشمل العقوبات التجارية سلعًا أخرى تصدرها روسيا أو أخرى تستوردها وبالأخص من أوروبا، وتحديدًا فيما يخص الأدوية والكيماويات.

هل من بديل للاقتصاد الروسي عن العلاقة مع الغرب؟
سؤال يشغل طرفي المعادلة، وخصوصًا أوروبا، نظرًا لاعتمادها على صادرات الطاقة الروسية، في ظل مرور قطاع الطاقة في أوروبا بصعوبات خلال الشتاء الحالي وما قبله، ونظرًا لعدم اكتمال أي مشروع بديل لاستيراد الطاقة من جهة أخرى غير روسيا، بالإضافة إلى خطر هذه العقوبات على الاقتصاد العالمي نظرًا لحجم الاقتصاد الروسي في الاقتصاد العالمي.

الاستعداد الروسي لاجتياح أوكرانيا
إلا أن الخطر الداهم سيلحق بالاقتصاد الروسي أكثر من غيره، وفي حال تطبيق أعلى مراحل العقوبات الممكنة فإن ذلك سيكون مدمرًا للاقتصاد الروسي، وحتى في حالة تطبيق عقوبات مخففة، فإن ذلك يعني مشاكل جمة للاقتصاد الروسي الذي شهد تعافيًا ملحوظًا في عام 2021 من جائحة كورونا بنسبة نمو تجاوزت 4%، وقد تشهد روسيا على إثر هذه العقوبات أزمة اقتصادية خانقة؛ حتى ولو لم يلجأ الغرب للخيارات الأكثر قساوة، كما أن روسيا ما زالت تعاني من آثار العقوبات المستمرة منذ عام 2014.

وتحتاج روسيا للبحث عن بديل عن الغرب لحماية اقتصادها من التبعات الاقتصادية المدمرة لكل درجات العقوبات المحتملة، وتقع الأنظار على الصين؛ حليف روسيا الاقتصادي الأضخم، والذي يعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

إلا أن الخيار الصيني لن يكون مطروحًا في حال اعتماد العقوبات الأشد قسوة، فالصين التي تدير تجارة ضخمة جدًا مع العالم لن تستطيع احتمال شمولها بالعقوبات الغربية، لا على تجارتها العالمية ولا على مؤسساتها المالية، ورغم كل التقديرات المتحدثة عن تراجع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الماضية؛ فإن ذلك لا يعني أن الغرب عمومًا وبقيادة الولايات المتحدة فقد السيطرة على النظام المالي العالمي، بل ما يزال يحتكره وبقوة.

وفي حالة العقوبات الأقل تشددًا قد يكون للصين قدرة على تخفيف حدة أثر العقوبات الاقتصادية، إلا أن الصين وحدها لن تستطيع حمل الاقتصاد الروسي، فبحسب الـ«Foreign Policy» ورغم الإعلان الروسي عن أن العلاقات مع الصين دون حد؛ فإن الدعم الصيني وحده لن يكفي لتجنب مخاطر العقوبات الغربية على روسيا، خصوصًا إذا كانت المساعدة الصينية للاقتصاد الروسي تعني شمول الأطراف الصينية بالعقوبات، كما أكد على ذلك رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في تحذير مسبق للشركات الصينية.

ساسة بوست

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد