في لبنان ومنذ تسعينيات القرن الماضي حتى أيّامنا هذه، اتسعت طبقة الفنانين لتحوي كمًّا هائلًا من الأفراد ذوي المستويات الفنية والجماهيرية المتفاوتة، ولا سيّما في عالم الغناء الذي لم يعد مقترنًا بصوت المؤدين وقدراتهم “الفنية” بل ارتبط بعناصر كثيرة، بعيدة كلّ البعد عن الفن.
شركات الإنتاج، أو عمليًا شركات استثمار المؤدّين والمؤدّيات في لبنان، تحوّلت إلى ما يشبه حلقة إتجار بالبشر: عقود ووكالات حصرية تلزم الطرف الأضعف، “الفنان”، أن يصبح سلعة بكلّ ما للكلمة من معنى. فضائح أخلاقية ومالية بالجملة، انتهاكات جرى التكتّم عليها وصراعات نشأت بين الكثيرين في إطار المنافسة على عقد مع شركة الاستثمار، ولعل أبرز تلك الشركات كانت روتانا.
في الواقع، حفلة الرياض التي عرضت سلعًا لبنانية ناطقة لم تكن سابقة في إطار الإتجار و”المرمطة” بفنانين لبنانيين مقابل مبالغ بأصفار كثيرة، مضافًا إليها صفر احترام وصفر كرامة وصفر قيمة فنيّة.
لقد بدأ ذلك منذ أن دخل الفنانون اللبنانيون سوق الحفلات الخاصة، الخاصة جدًا، في قصور الأمراء ويخوتهم، ومنذ أن بدأوا بالتباهي فيما بينهم حول الأرقام التي حصلوا عليها لقاء خدماتهم “الفنية” والتي ساهمت في صناعة صورة نمطية مقزّزة عن اللبنانيات خاصة في الخليج.
اليوم، تغيّر المشهد قليلًا، بل ساء كثيرًا ولم يعد مصحوبًا بالحدّ الأدنى من الحياء، لدرجة القول أنّ حلقة تسليع “الفنانين” لا تتحمّل مسؤوليتها فقط الجهة المتموّلة التي تعاملهم كسلع، بل يتحملون هم أيضًا مسؤولية تردّي حسّهم الإنساني والفني والأخلاقي الذي جعلهم يرضون بالتحوّل سلعًا رخيصة على رفوف هيئة الترفيه والتسفيه.
عادة، في جميع ظواهر الإتجار بالبشر وبالكرامات، تظهر الضحية ولو عبثًا بعض المقاومة. تحاول التعبير ولو بنظرة عن امتعاضها من تسليعها وانتهاك كرامتها، إلّا ظاهرة السلع المنبطحة عند “حساب” تركي آل الشيخ التويتري، والتي تعرض خدماتها المتعدّدة على هيئته ودولته بكرامات بخسة وبقيمة إنسانية رخيصة جدًا، بل وتتنافس فيما بينها للحصول على مقعد في رفوف حفلاته، ليس على حساب كراماتهم فقط، بل أيضًا على حساب مواقفهم الإنسانية والأخلاقية من القضايا العامة.
اللافت في الأمر، أنّ هؤلاء المنبطحين أنفسهم، ديوك في لبنان! يتعاملون بفوقية مع كلّ الناس، ينظّرون في السياسة وفي الاقتصاد وفي الفلسفة وحتى في الدّين. يصيغون موقفًا من كلّ حدث ويقدمونه وكأنّه خلاصة تفكير عميق وقيمة انسانية عالية. وما أفصحهم في المحاضرة بالوطنية ولا سيّما حين يدمعون إذا أدّوا أغنية ذات طابع وطني، وإن لفظوا الطاء تاءً على سبيل النعومة الفنية المحبّبة لدى الزبون الخليجي.
في المشهد الأخير على أحد مسارح الرياض، في ما عُرف بالتريو نايت، وقف الفنانون وغالبيتهم من اللبنانيين أذّلاء تمّ شراؤهم في صفقة علانية. حتى في الفيديوهات التي عرضت بعضًا من كواليس الحفل، كان الذلّ الطوعيّ واضحًا على وجوههم. بدوا وكأنّهم تجرّدوا حتى من شعورهم بقيمتهم الإنسانية. والأسوأ أن كلّ هذا لم يحرّك فيهم ولو نظرة تعبّر عن الانزعاج. على العكس، كانوا فرحين بأن انبطاحهم منذ شهور طويلة عند أعتاب تغريدات تركي الشيخ الذي كان يقوم بإذلالهم في إطار ردّه على تعليقاتهم (ولا سيّما المدعوة إليسا التي قام تركي بتوبيخها والسخرية منها وتعمّد إذلالها في ردود له على تعليق منبطح لها… أجل هي نفسها التي تقوم بين الحين والآخر بتحديد معايير وطنية المرء وتعطي “رأيها” بالحريات وغيرها).
بغض النظر عن أيّ موقف مسبق من طبيعة غالبية “العمل الفني” في لبنان ولا سيّما الرائج في السعودية، كان المشهد يغالي في تظهير الذلّ ويجاهر في التعبير عن استطاعة المال شراء النفوس والمواقف.
بكلّ الأحوال، تقول جداتنا أنّ “كل لي بينشرى رخيص” ونقول أن الرّخص الذي ظهر على فناني لبنان في سوق تركي آل الشيخ بشع الى حدّ إثارة الغثيان. يبقى أن يلتزم هؤلاء الفنانون وصفهم كسلع رخيصة ويكفّوا عن المحاضرة بالأخلاق وبالحريّة، فشمس انعدام أخلاقهم وتوقهم للعبودية “طالعة” والناس كلها قد رأت.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.