الصين في الخليج: غزوة جينينغ

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

في لحظة توتر سعودي أميركي فاقع، اختار الرئيس الصيني تشي جينينغ تحديد موعد رحلته إلى الرياض. الاستقبال الخاص للرئيس الضيف، على المستوى البروتوكولي، وحجم الحفاوة التي لاقاها من قبل المسؤولين السعوديين، وعلى رأسهم ولي العهد محمد بن سلمان، بدَوَا واضحين. ولوهلة بدا مشهد الطيران السعودي وهو يرسم ألوان العلم الصيني في سماء المملكة، سورياليًا بامتياز، وهو مشهد ربما لم يكن أحد ليتصوّره قبل عقود، حين كانت المملكة في زمن الحرب الباردة تميل إلى ضفة “صين أخرى” غير شيوعية، في تايبه، عاصمة تايوان أو ما يُعرف بـ “الصين الوطنية”.

واقع العلاقات السعودية الصينية من صفقة صواريخ إلى “اتفاقية الشراكة الاستراتيجية”
وكما هي الصورة، فإن واقع العلاقات الخليجية الصينية بصفة عامة، والسعودية الصينية بصفة خاصة، قد تغير بالفعل. فخلافًا لحقبة الحرب الباردة، تتمتع السعودية، أسوة بباقي دول الخليج، بعلاقات تجارية جيدة مع الصين. على سبيل المثال، تشكل واردات الصين النفطية من الدول العربية، ومعظمها من دول الخليج، ما نسبته 51 في المئة من إجمالي وارداتها من الخام، وفق تقديرات مجلة “إيكونوميست”. كما أن شركة النفط الصينية “سينوبيك”، وقّعت في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي اتفاقًا مع قطر لتزويدها بالغاز الطبيعي المسال، لمدة 27 عامًا، وهي صفقة الغاز الأطول مدة على الإطلاق. وفيما يخص حجم الاستثمارات الصينية في الدول الخليجية، فقد تجاوزت قيمة تلك الاستثمارات منذ العام 2005 110 مليارات دولار، وهو أكثر من نصف إجمالي حجم الاستثمار الصيني في الدول العربية. ورغم ظروف أزمة “وباء كورونا”، وتراجع نشاط ذلك الاستثمار، فقد استقطبت السعودية استثمارات صينية بقيمة 5.5 مليارات دولار منه خلال النصف الأول من العام الجاري، في إطار “مبادرة الحزام والطريق”، أي أكثر من أي دولة أخرى خلال الفترة نفسها. ورغم تدفق بعض الاستثمارات في قطاع السياحة والفنادق، أو قطاع صناعة السيارات داخل عدد من الأقطار الخليجية، لا سيما السعودية، خلال العام الماضي، إلا أن معظم الجهد الاستثماري الصيني لا يزال منصبًّا على قطاع الطاقة والبتروكيماويات.


على هذا الصعيد، يعتبر الصحافي المتخصص في العلاقات الصينية الشرق أوسطية، تشن تشيوي أنه لا يمكن التقليل من أهمية زيارة جينبينغ للسعودية، لا سيما وقد تخلّلها قمة دبلوماسية صينية- عربية، هي الأولى من نوعها، والأرفع في تاريخ العلاقات بين الصين والدول العربية. ويوضح أنّ تلك العلاقات نجحت في تجاوز اعتمادها شبه الأوحد على صادرات النفط، وإن بصورة نسبية، لافتًا إلى أن قطاع التكنولوجيا الصيني، عبر شركات مثل “Huawei” المتخصصة في مجال الاتصالات، و”BeiDou” لأنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية حقّق خلال الأعوام الماضية نجاحًا في عدد من الدول العربية، إضافة إلى تسجيل زيادة الإقبال على تعلّم اللغة الصينية في أوساط الطلاب العرب، كمؤشر إيجابي بشأن الاتجاهات المستقبلية للعلاقات بين العملاق الآسيوي والدول العربية. ويتابع أنّ العالم العربي يحتل مكانة مميزة في شبكة الصين الواسعة من الشراكات الاستراتيجية، خصوصًا أن معظم البلدان العربية انضمت إلى “مبادرة الحزام والطريق” التي أطلقها جينبينغ، شارحًا أنّ إبرام “اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة” من شأنه تعزيز المكاسب الجوهرية لكل من بكين، والرياض، وترسيخ أسس التعاون الثنائي بينهما. ويرى أن الاتفاقية ستكون “بمثابة نافذة للصين كي تُظهر للعالم نيتها بانفتاح أكبر، وتركيزها على إبراز فرص جديدة للتعاون” مع دول جديدة، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد العالمي إلى قوة دفع إضافية جديدة للتعافي من تبعات “أزمة كورونا”.

ما الذي يزعج واشنطن في تطور العلاقات السعودية الصينية؟
واقع الأمر أن تنامي العلاقات بين بكين والرياض على المستوى الاقتصادي، لا يسبّب الكثير من القلق داخل أروقة واشنطن. في هذا المجال، تشدّد مجلة “نيوزويك” على أنّ الجانب المقلق في تلك العلاقات، على المقلب الأميركي، هو ذهاب السعوديين بعيدًا في الشراكة مع نظرائهم الصينيين، في مجالات حسّاسة، كالأمن والدفاع والاتصالات. وتشرح المجلة الأميركية أنّ دولًا خليجية، حليفة للولايات المتحدة، تبدي اهتمامًا متزايدًا بالتعاقد مع شركة “Huawei” ، لتطوير البنية التحتية المرتبطة بإطلاق الجيل الخامس من خدمات الانترنت فائق السرعة 5G، إلى جانب سعيهم للحصول على خدمات من شركة SenseTime المتخصصة في برامج الذكاء الصناعي، وهي شركة صينية مدرجة على لائحة العقوبات الأميركية على خلفية مزاعم بشأن دورها في التجسس على سكان إقليم شينغيانغ الصيني، لحساب الحكومة الصينية. على هذا الصعيد، قامت إحدى الشركات المملوكة من صندوق الثروة السيادي السعودي بالتعاقد مع الشركة المذكورة في أيلول/ سبتمبر الماضي لبناء مختبر ذكاء صناعي في المملكة بقيمة 207 ملايين دولار. أما على المستوى العسكري، فقد باعت الصين مسيّرات هجومية لصالح أكثر من دولة خليجية، من بينها الإمارات، كما أنها أبرمت في آذار/ مارس الفائت عقودًا مع الرياض من أجل تصنيع ذلك النوع من المسيّرات داخل المملكة. وبحسب مصادر استخبارية أميركية، فإن الجانبين يعملان في الخفاء على تطوير برنامج صاروخي سعودي، لا يزال في مراحله الأولية. وكمؤشر على انزعاج أميركي واضح من تلك الأنباء، فقد نقل مسؤولون أميركيون، على هامش مشاركتهم في فعاليات “حوار المنامة” السنوي حول القضايا الأمنية والاستراتيجية في تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم، تحذيرهم للقادة الخليجيين على هذا الصعيد. فقد صرّح مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك بأنّ تقارب الدول الخليجية المتزايد مع الصين، “من شأنه أن يضع سقفًا للعلاقات الأميركية معها”. هذه النبرة الواضحة حول حجم الضيق الأميركي بالتقارب السعودي الصيني، حملتها أيضًا تصريحات منسّق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي حين ألمح إلى وجود مساعٍ صينية لإقامة مناطق نفوذ حول العالم، وزعزعة النظام الدولي القائم. هذا التأطير يرفضه أكاديميون صينيون، ويضعونه في خانة خطاب الحرب الباردة، الذي تتمسك به واشنطن، وهو خطاب عفا عليه الزمن، وفق هؤلاء.


من هذا المنطلق، يشرح الأستاذ في معهد دراسات الشرق الأوسط، بجامعة شنغهاي للعلاقات الدولية، فان هوغدا أنّ “هذا النمط من المنافسة (الجيوسياسية) مع واشنطن، ليس بالضبط ما تبحث عنه الصين”، مشيرًا إلى أن المسألة تتعلق باتجاه العديد من الدول في الشرق الأوسط لانتهاج سياسة خارجية مستقلة عن سياسات الهيمنة، وقائمة على المصالح الخاصة بكل دولة. ويضيف أنه من الطبيعي أن تكون مقاربة بكين في السياسة الخارجية (القائمة على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى) مقبولة بصورة أكبر في المنطقة، موضحًا أن “قوة عالمية، بحجم الصين، ستكون موضع ترحيب من جانب تلك الدول، لا سيما وأن الدولة الآسيوية أكثر استجابة لاحتياجات التنمية” لديها.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد