في أوج انشغال الرأي العام العالمي بمتابعة فعاليات “مونديال كأس العالم” في قطر، كانت تركيا تستعد لتحضير الرأي العام الداخلي فيها إلى قرب تنفيذ عملية عسكرية برية داخل حدود الجارة سوريا، باتجاه مدينتي تل رفعت ومنبج. فبعد تفجير إسطنبول، واتهام “حزب العمال الكردستاني” بالوقوف خلف التفجير، وجدت تركيا نفسها معنية بالتصدي لما تصنّفه كفصائل مسلحة تابعة للحزب المذكور، وعلى وجه التحديد ما يُعرف بـ “قوات سوريا الديمقراطية”.
بين الطرفين سجال طويل في الحرب والسياسة، بعضها يتمحور حول ما نُفّذ من التفاهمات الميدانية “اتفاقية سوتشي”، التي تم التوصل إليها بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب اردوغان خلال العام 2019، وبعضها الآخر يدور حول اتهامات متبادلة يكيلها كل طرف للآخر حول “دعم الإرهاب”. فالجانب الكردي لطالما شكا من مساندة ميدانية قدمتها تركيا لعناصر تنظيم “داعش” عند حدودها الجنوبية، فيما تروّج تركيا للتهمة ذاتها بحق الفصائل الكردية، معطوف عليها وسم تلك الفصائل نفسها بـ “الإرهاب”، حيث تتهمها أنقرة بتنفيذ ما يقرب من ألفي هجوم انطلاقًا من الحدود السورية ضد مواطنيها، وعناصر الجيش التركي على حد سواء. أما فيما يتعلق ببنود “سوتشي”، فتشكو تركيا من أن تلك البنود نصّت على انسحاب العناصر الكردية من تل رفعت، ومنبج، الأمر الذي لم تلتزم به الأخيرة، مع مواصلتها شن هجمات ضد جنودها في تلك المنطقة، ولا سيما في عفرين، وفق مزاعم أنقرة. من جهتها، تصرّ “قسد” على أنها التزمت بسحب معظم عناصرها من المنطقة، متّهمة أنقرة بخرق “اتفاقية سوتشي”، وتفاهمات عقدتها الحكومة التركية مع الفصيل الكردي، جرى التوصل إليها برعاية أميركية، وذلك من خلال استهداف مواقع في المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، وخصوصا في محافظة الحسكة، التي تتمركز فيها قوات أميركية.
الموقف الأميركي
وللوقوف على مقاربة واشنطن للتطورات على الحدود التركية السورية، تشير مجلة “نيوزويك” إلى أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تسعى إلى تحقيق نوع من “التوازن الدقيق” بين اعتراضه على العملية العسكرية التركية ضد “قوات سوريا الديمقراطية”، المدعومة أميركيًّا، وبين متطلبات الحفاظ على علاقات جيدة مع تركيا التي تضطلع بدور دبلوماسي مهم بين موسكو وكييف لحل الأزمة الأوكرانية.
وعما يمكن أن تقوم به الإدارة الأميركية لمعاقبة أنقرة في حال تجاوزت الخطوط الحمر شمال سوريا، يذهب موقع “المونيتور” إلى أن لجوء إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى فرض عقوبات على تركيا، ومن ضمنها وقف توريد مقاتلات “إف- 35″، بعد عملية “غصن الزيتون”، وعلى خلفية شرائها منظومة “إس-400” الروسية، يجعل خيارات واشنطن لممارسة الضغوط، وتشديد العقوبات على أنقرة محدودة للغاية. ويضيف الموقع أن عددا من القيادات الكردية، لا سيما رئيسة الجناح السياسي لـ “قوات سوريا الديمقراطية” إلهام أحمد ستتوجه إلى الولايات المتحدة خلال الأيام القليلة المقبلة لدفع إدارة بايدن إلى التحرك للجم الاندفاعة العسكرية التركية.
ويكشف “المونيتور”، نقلا عن مصدر دبلوماسي رفيع، أن إدارة بايدن عمدت إلى سحب موظفيها من المدنيين والعسكريين من سوريا باتجاه أربيل في كردستان العراق، في حين أكد المتحدّث باسم الخارجية الأميركية أن عمليات القصف التركي باتجاه البنية التحتية داخل المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، كمحطات الطاقة الكهربائية، ومنشآت النفط، وصوامع الحبوب، هدّدت سلامة أفراد الطاقم العسكري والدبلوماسي لبلاده هناك.
الحسابات التركية
ولشرح أهداف أنقرة من عمليتها العسكرية البريّة المرتقبة داخل الأراضي السورية، التي ستكون الخامسة خلال خمس سنوات، يشير المحلل التركي سلجوق آيدين إلى أن “الاستراتيجية الانتخابية لحزب العدالة والتنمية ركّزت خلال الأشهر القليلة الماضية على خلق انطباعات إيجابية عبر الترويج لعدد من الأخبار المتعلقة بالسياسة التركية” قبيل الاستحقاق الرئاسي، على غرار السماح للقيادي الكردي صلاح الدين ديمرطاش بلقاء بعض أفراد عائلته في السجن والإفراج عن شخصيات كردية أخرى، إضافة إلى الاحتفاء بالأنباء حول انفراج علاقات تركيا بعدد من خصومها السابقين كالسعودية والإمارات و”إسرائيل”، فضلًا عن شن عمليات عسكرية عبر الحدود تحت شعار “مكافحة الإرهاب”. ويضيف أن الاستراتيجية الانتخابية المشار إليها “لاقت استحسانا لدى جمهور الناخبين، كما تُظهر استطلاعات الرأي”.
ومع ذلك، ثمة مخاوف من أن يسهم تفجير اسطنبول الأخير في عرقلة جهود المصالحة التي يتولاها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع بعض القوى الإقليمية، بخاصة سوريا، حيث إن التفجير الإرهابي “قد يحوّل تركيزه على نحو شبه تام إلى الجانب الأمني”، سواء في سياسته الداخلية أو الخارجية. فعلى الرغم من أنّ أنقرة أكدت في أكثر من مناسبة سعيها إلى إعادة العلاقات مع سوريا، وذلك من باب إيجاد الحلول لأزمة اللاجئين السوريين في الداخل التركي التي باتت تؤرّق حكم حزب “العدالة والتنمية”، وإيجاد تسوية سلمية للنزاع المسلح على حدودها الجنوبية منذ قرابة العقد، إلا أن أولويتها في الوقت الراهن تتمثل في إزالة تهديد الفصائل الكردية المسلحة، وتأمين حدودها مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التركية العام المقبل، من منظور آيدين. ويشرح المحلل التركي، أنّ آخر ما يريده اردوغان هو عودة تصاعد أعمال العنف في المدن التركية، ما يفسّر ترجيح تشدّده في حل المعضلة الأمنية المتصلة بالملف الكردي خلال الفترة المقبلة، معتبرًا أن تحقيق مكاسب على هذا الصعيد، يشكّل إحدى أقوى الأدوات التي يمكن للحكومة توظيفها في السباق الرئاسي. وفي الإطار عينه، يرى موقع “المونيتور” أن النوبة العدوانية الأخيرة لاردوغان متصلة بجهوده الحثيثة لكسب تأييد القوميين الأتراك استعدادًا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في حزيران/ يونيو المقبل. ويتابع الموقع أن الرئيس التركي ينطلق في عدائه تجاه الفصائل الكردية المسّلحة، لا سيما “قوات سوريا الديمقراطية”، من الهواجس التاريخية للمؤسسة الأمنية التركية من امكان قيام كيان كردي مستقل على حدودها، ومن تبعاته على تعزيز النزعة الانفصالية لدى أكراد تركيا، موضحا أن “ما يزيد الطين بلّة، هو أن معظم القيادات في صفوف قوات سوريا الديمقراطية من قادة حزب العمّال الكردستاني” العدو التاريخي لأنقرة.
هل حُشرت قوات سوريا الديمقراطية في زاوية الانشغال الأميركي والروسي بحرب أوكرانيا؟
مع تواتر الأنباء عن عملية عسكرية برية تركية وشيكة، تداعت القيادات الكردية في صفوف “قوات سوريا الديمقراطية” للتعبير عن قلقها من جدية تحركات أنقرة. فقد صرّحت عضو القيادة العامة لقوات سوريا الديمقراطية، نوروز أحمد، بأن تركيا تستفيد من الظروف الإقليمية والدولية المحيطة لمهاجمة “قسد”، مشيرة إلى أن العديد من القوى الكبرى الفاعلة، لا سيما روسيا والولايات المتحدة، منشغلة بتطورات الحرب في أوكرانيا. وأعربت نوروز، في تصريح صحافي، عن مخاوفها من أن الدولتين اللتين تشاركتا سابقا في توجيه إدانات شديدة اللهجة تركيا للإحجام عن القيام بخطوات عسكرية جديدة في الشمال السوري، قد غيرتا من نبرتهما تلك إزاء تركيا، مضيفة أن موقف القوى الغربي بصورة عامة، لم يعد قويًّا في إدانة السلوك التركي، كما كان عليه الحال قبل اندلاع الحرب الأوكرانية. وضمن هذا السياق، يوضح موقع “المونيتور” أن “كلًّا من موسكو وواشنطن سبق أن رفضتا، وعلى مدى أشهر طويلة، إعطاء الضوء الأخضر لأردوغان لشن هجوم بري”، مضيفًا أن “حرب أوكرانيا أسهمت في قلب حساباتهما رأسًا على عقب”. وينطلق الموقع من أن مصدر قوة الموقف التركي تتمثل في سيطرتها على مضيق البوسفور وحركة السفن العابرة باتجاه البحر الأسود، واضطلاعها بدور الوساطة بين موسكو وكييف، ما أهلها إلى كسب تأييد الغرب من خلال توريدها مسيرات “بيرقدار” لكييف، من جهة، وجعلها أقرب إلى موسكو في مسألة رفض الانصياع لتطبيق العقوبات الغربية ضدها. وعلى هذا الأساس، يجزم الموقع بأن ما سبق يرجّح كفّة المصالح التركية، على حساب “قسد”، في حسابات القوى الكبرى.
وبخصوص آثار تفجير إسطنبول المحتملة على السياسة الخارجية التركية، يشير موقع “ميدل إيست آي” إلى أن سياسات الحكومات الإقليمية، كسوريا، لا تُعد مصدر التهديد الرئيسي للأمن التركي، خلافًا لما يمثله “حزب العمال الكردستاني” و”قوات سوريا الديمقراطية”، وفق منظور أنقرة التي تصنفهما “جماعات إرهابية”. من هذا المنطلق، يستبعد الموقع البريطاني أن يُجهض حادث التفجير في أحد شوارع إسطنبول، جهود أنقرة للمصالحة مع جيرانها، مشدّدًا على أن الهجوم الإرهابي “قد يمهد الطريق لإجراء محادثات جديدة” مع بعض القوى، بصورة قد يعقبها تشكيل “تحالفات جديدة” في المنطقة لاستهداف ما تصفه تركيا بـ “التهديد الكردي”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.