يُحكى، في أزقّة العلوم الإنسانيّة، أن الثورة هي حركة بشريّة هادفة، تنشُد تغيير الستاتيكو القائم في حقلٍ معيّن: سياسي، اجتماعي، ثقافي، وغيرها، عبر استخدام أساليب ناعمة تارةً، وخشنة تارةً أخرى، أو بالجمع بين هاتين الحالتَين لتغيير الوضع القائم. أما في العلم اللبناني، فتُصبح هذه السطور مجرّد أسطورة، فلا الحركة الهادفة هادِفة، ولا الثائرون ملمّون بمُقام الحقل الذي ينشدون حصاده.
في السابع عشر من شهر تشرين الأول قبل ثلاث سنوات، انهمر آلاف اللبنانيين نحو وسط العاصمة اللبنانية بيروت، بعد قرار صدر عن الحكومة آنذاك باستحداث ضريبة على مكالمات تطبيق الواتساب المجاني. كان وقعُ القرار صاعقًا على شريحة ساحقة من المواطنين الذين أذاقتهُم دولتهم مُرَّ العيش، وجعلتهم يترنّحون على حِبال الفَقْر الهَشّة. ومنذ اللحظة الأولى، كان تدفُّق الناس العَفَوي، “عَفويًا مُنظَّمًا”! وكان تَرَصُّدُ الأوضاع لا يبشّر بالخَير، في بلدٍ “معجونٍ” بأنامِلَ قوى الهيمنة الخارجية السياسية-الاجتماعية، والتي لها أدوات ومستفيدون “مَتينون”، يسيطرون على حقول الاقتصاد والسياسة، ويسيّلون كافة المجريات لمصلحة مخطّطاتهم الماكرة، على رأسها محاصرة المقاومة التي أضحَت تشكّل الخطر الأكبر على دوائر هيمنتهم وسيطرتهم السياسية، ومن ورائهم أحزابٌ وطوائفُ ومِلَل، يحكمون في ميدان صُنِعَ لهم، ويتقنون ملاعَبَة خصومهم فيه.
المُتَتَبّعُ لشؤون التاريخ اللبناني الحديث، يلحظ أن أغلب الحَراكات السياسية التي أقيمَت، والتي كان بعضها عُنفيًّا، كان يفتقد إلى “الإرادة الذاتية”، والوعي المُدرك كيفية قيادة تلك الحراكات والانتفاضات. كانت “ثورات” الزمن السياسي الحديث تُختَتَمُ بتسوية خارجية، انتهت جميعها بمطافٍ غير المطاف الذي “ثارت” من أجله، وفي مستنقعٍ بعيد عن الأهداف التي كانت منشودةً لتحرّكها.
المشكلة في لبنان ليست اقتصادية ولا مادية، تلك المفردات تشكّل تبعات الأزمة الحقيقية، ونتائج مُتَأتّية عن أصل بنية الكيان اللبناني وخصائصه السياسية والاجتماعية والثقافية. فأصل المشكلة يكمن في أصلِ الكيان، وهُويّة الحُكم فيه خالية من الجوهَر المُجدي الذي يحمل قضية وطن ومواطنة.
إذًا فالمَأزِقُ جَسيم، و”الثورة” التغييرية تحتاج إلى معرفة خطب الإشكالية بالدرجة الأولى، وامتلاك الوعي المعرفي لطبيعة التغيير المطلوب، ومسالِك تحقيقه، والتعامل مع كافة الشوائك الضخمة المتصلّبة في سكّة الانتفاض والجَمهَرة.
بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين قسم وفير من الناس آمنوا بجدواها، حتى أن بعضهم آمن بها على طريقة التمنّي وهم على معرفة كافية بطبيعة الأزمة واستحالة الحل بهذه الطريقة. لم يدم الأمل كثيرًا، بعدما كشّرت تلك الانتفاضة عن صبغتها، وفتحت معركتها ضد الدولة، كهوية وقيَم، وفتحت نار العداوة مع جميع من كانوا يُعتَبَرون الأمل الوحيد للانقاذ، وغدا سلاح المقاومة الرادع لإسرائيل هو المشكلة، ووالدة جبران باسيل هي التي افتعلت الكوارث وأوصلتنا لما وصلنا له من محن. جُرَّ “الطيّبون” وراء قطار المتربّصين، وتلاطمت أمواج الخداع لتُشتِّت ما كان قد تبقّى من وعي في عقول الكثير من الناس.
القضية الضائعة
تُشكّل “القضية” مرتكز أيّ عمل ثوري يسعى إلى التغيير والإصلاح. وضوح القضية والايمان بها، الإجماع عليها من قبل كافة المنتفضين، الاقتناع بمشروعيّتها، والاستعداد للتضحية من أجلها، ذاك هو دَيدَين المهمّات الثورية، ومن دون قضية لا يوجد أرضية لقيام ثورة.
لم تجتمع “شعوب” 17 تشرين على قضية واحدة، وشابها الغرور لحظة اندلاع الأحداث، من دون التفكير حول ماهية “القضية الثورويّة” والأهداف السامية التي قامت من أجلها. الشعارات الرنّانة -ولو كانت محقّة- تبقى رنّانة، من دون فاعلية، إلا إذا ما تم تأطيرها ضمن مخطّط واقعي ذي سياسيات أرضيّة تمكّن من تحقيق الهدف، رغم ضخامته.
“إسقاط النظام” ليس قضية، إنما، بالحالة الطبيعية، هو سياق نحو تحقيق الهدف. لا بل، كان أركان النظام الأساسيّون، بالتخفّي، هم من يديرون مسارات الحراك ويوجّهون الثائرين. للأسف، أُسِر الناس وراء تلك الشعارات البراقة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وكان الهدف الجَدّي من قبل النُخَب تفريغ مضامين الحَراك لتكون الحركة من دون بركة، ويفقد الزخم نجاعته. وعلى سيرة النُّخب، قضية النخب في الانتفاضة كانت متناقضة مع قضية المنتفضين أنفسهم، أو القسم الأكبر منهم. وهذا بحدّ ذاته يعدّ شرخًا قاتلًا للمذهب العملي الواجب تتبّعه في العمل الثوري المُجدي.
اللا إرادة وقُصور الوعي
إن الإرادة هي التغيير، حيث تتشكّل من التصميم على تحقيق الأهداف وامتلاك العزيمة لكي لا تتدحرج الروحية نحو الهزيمة والاستسلام. غابت الارادة عن المنتفضين في خريف 2019، وأثّر “تآكل الوعي” على معرفة مكنونها ومكوّنات تمتينها وعدم الانهزام. “القصة كلها” تكمن في الوعي؛ فيه يتوضّح المسار، وفيه تتصلّب الإرادات، وفيه تَتَّزِنُ السياسات.
الغائب الأكبر في الأحداث كان الوعيّ. طبيعة الناس الغالبة، في أي بقعة على سطح الأرض، أنهم لا يهتمّون في الشأن السياسي المعمَّق، ودائمًا ما تكون النُّخَب السياسية أقليّة، وتكاد لا تُرى في بعض المجتمعات. ولبنان كذلك. صحيح أن “الصّيت” السابق هو أن الشعب اللبناني مُلمٌّ بالسياسة، وهذا صحيح، والأصحّ أن الشعب يحبّ أن يظهر بهيئة العارف في الأحداث السياسية، وغير السياسية، وهذا يعود إلى خاصيّة “حُب الظهور” الطاغية لدى المواطنين اللبنانيين. وهي بالمناسبة ليست سِمَة عاطلة، بل تميّزنا عن بقيّة الشعوب في الكثير من الأحيان. وبالتالي، فإن الإلمام بقشور السياسة لا يعني المعرفة، ولا يقتضي الاقتراب من حالة الوعي الفكري المطلوب في المواجهة.
وفق بعض التعاريف، فإن الوعي السياسي هو “نظرة الانسان تجاه محيطه، وكيف يقرأه، وما يتضمّن هذه النظرة من معارف سياسية وقيَم واتجاهات تتيح للإنسان أن يدرك أوضاع مجتمعه ويحلّلها، ليِحكُم عليها ويحدّد موقفه منها، وبالتالي ليعمل على تغييرها إذا ما وجدها شاذّة عن الطبيعة”. يتيح الوعي السياسي، بالتالي، وكوظيفة أولى، الدّراية بالمخاطر المحيطة والعوائق المغروسة، والتنبُّه كي لا يستغلّ أحد الحراك من أجل تحقيق مآربِهِ الأخرى.
في أخطر بيئة تغييرية على وجه الأرض، نظرًا لطبيعة المنطقة الجيوستراتيجية وضخامة الهيمنة الغربية على كيانات الدول فيها، إضافة إلى وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة، الذي يجسّد المنظار الذي ترى فيه الولايات المتحدة بلداننا، في هذه البقعة العسيرة، ميدان التغيير يكون عبارة عن حقل ألغام، ومن ينشد التغيير عليه أن يأخذ في الحسبان أن مساره سيكون شائكًا ومعقّدًا ومملوءًا بالكمائن والمكائد والفتن، وأن يعلم أن السلاح الوحيد للمجتمع المنتفض هو الوعي السياسي، وأن القوى المتربّصة لن تجعل المهمة سهلة أبدًا. وما الفشل الذريع الذي أصاب “ثورة” 17 تشرين، وهي التي لم تكن محلّ ثورةٍ في يومٍ من الأيام، ولم تخطُ خطوة واحدة تجاه العاتق الثوري الذي كان يومًا محطّ آمال شريحة لا بأس بها من الشعب اللبناني، إلا تجسيد لقُصور الوعي السياسي. والطامّة الكبرى، أن “التشرينيّين” لا يريدون الاعتراف بذلك، ولا هم كرّسوا أنفسهم لتحقيق تراكم سياسي تَوعَوي ربما يكون زادهم في أي فرصة مقبلة.
وكما بدأنا نختم، فإن الهدف من الثورة انتهى في مكان آخر، حتى أصبح ممثلو الثورة، شاء الثوار أم أبوا، مجموعة من النواب الذين جاؤوا على صهوة النفوذ الطائفي، ومنهم من دخل الندوة البرلمانية بـ “دفشة” من أرباب المصارف، وآخرون امتطوا إرث أسلافهم من داخل الأحزاب التقليدية. وهكذا انتهت قصة تشرين، حتى قبل أن تبدأ.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.