في خضم الحديث عن توترات المنطقة وتداعيات أحداثها والصراع مع العدو الصهيوني وأطماعه في لبنان وأرضه وبحره ونفطه وغازه، وأمام معادلات التوازن في الردع القائمة بين المقاومة والعدو في يومنا هذا، نستحضر من الذاكرة أولى تلك المعادلات ومطلِقَها الذي كان نافذ البصيرة والرؤى الإستراتيجية في الصراع ومعادلات القوة فيه، هو الشيخ راغب حرب (رض) من بلدة جبشيت في جنوب لبنان، ذاك الشيخ المتواضع المحبّ لأهله الفقراء ولناسِهِ البسطاء ولفلاحي الأرض وللأيتام والمحرومين، الذي كان صانعًا للمعادلات الاستثنائية في الزهد بالدنيا والعلاقة مع المسجد والجهاد في سبيل الله ومقاومة المحتل.
كان (رضوان الله عليه) ركنًا أساسيًّا من أركان المقاومة الإسلامية وإطلاقها ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982م وشيخ شهدائها. هذا الرجل الملتزم نهج ولاية الفقيه جنديًّا من جنودها المخلصين سار خلف إمامه الفقيه الراحل روح الله الخميني المقدَّس(قده) عاشقًا له وثائرًا بصدقٍ ووعيٍ متلحفًا برايته ومؤمنًا بنهجه، منذ الساعات الأولى للاجتياح الإسرائيلي كان يعلم علم اليقين بمخاطر هذا الاحتلال وأهدافه التدميرية والإجرامية. يومها كان يشارك في مؤتمر إسلامي في الجمهورية الإسلامية في إيران حيث غادرها على عجل وعاد إلى الجنوب اللبناني ليكون إلى جانب أهله وإخوته في مواجهة العدوان. حينها لم يكلَّ أو يهدأ لحظةً واحدة في الانتقال من بلدةٍ إلى أخرى ومن قريةٍ إلى جارتها يؤلّب المجاهدين المؤمنين على قتال “إسرائيل” ويحضُّ الناس على رفض التعامل معها ويدعوهم لجمع السلاح والعتاد وتخزينه لمواجهتها، هذا السلاح الذي رماه كثيرون ودفنوه في التراب جبنًا وخوفًا وتراجعًا أمام أرتال العدو وجنوده.
أدّى الشيخ راغب حرب (رض) دورًا محوريًّا في رفض التطبيع والاستسلام للاحتلال ودعا الناس لمقاطعته وعدم القبول به وحتى مجرَّد النظر في وجه جنوده، كموقفٍ رافضٍ لوجوده واحتلاله، مما جعل قادة الاحتلال وعملائه يضيقون به ذرعًا وبمواقفه وحركته بين الناس ويتحينون الفرص لاعتقاله.
كان يوصل الليل بالنهار في شرح مخاطر الاحتلال وفضح جرائمه وتنظيم عمل المقاومين وتنسيق العمل في ما بينهم ونقل السلاح والذخائر. وكانت عيون العملاء والجواسيس ترصده وتتابعه، تحصي تنقلاته ولقاءاته وكلماته، ويوم اعتقل هاجت قرى الجنوب وأهلها استنكارا وشجبًا واعتصامًا حتى أُجبر العدو على إطلاقه بعد 17 يومًا من الاعتقال الذي ما زاده إلا إصرارًا وثباتًا على استكمال ما بدأه من تعبئة للناس ضد المحتل الذي بقي يتحيَّن الفرصة لاغتياله حتى استشهد (رضوان الله عليه) غيلةً في السادس عشر من شباط من العام 1984م على أيدي العدو الإسرائيلي وعملائه.
وفي اعتصام بلدة الحلوسية الجنوبية عام 1984 على إثر اعتقال رفيق دربه شيخ المعتقلين في حينها الشيخ عباس حرب (رحمه الله) حيث قال: ” بيقدروا اليهود يقولوا كل شي، بيقدروا يقولوا هزمنا العرب بسيناء واحتلينا فلسطين، بس ما بيقدروا يقولوا ركّعنا الجنوبيين، لأ فشروا”. وكان يردد دائمًا أنّ علينا أن نقاوم المحتل، و”“إسرائيل” وهمٌ مزّقناه .. “. وفي هذا الاعتصام بالذات أعلن “معادلته الأولى” لقوة المجاهدين وقدراتهم والتوازن في المواجهة وردع المحتل ووقف العدوان: ” .. بيهدموا البيوت .. خير إن شاء الله تُهدم بيوتنا وبيوتهم .. “. كان يعرف حقيقة هذا العدو الإجرامية والتوسعية ومعادلته تلك تعني أنَّنا سنهدم بيوت العدو والتي أقامها على أرض فلسطين المغتصبة في حال قام بهدم بيوتنا، وأننا يجب أن نكون على مستوى التحدّي والرد ويجب أن نُفهِم العدو أنه سينال منا ما يستحقه على عدوانه وإجرامه وهدم القرى وإزهاق الأرواح، وهذا ما قامت به المقاومة وما زالت تقوم به في مسيرتها الطويلة، حتى وصل إلى مرحلةٍ عالية في خطابه من التحدّي والهزء بالعدو في هذه المواجهة، ومقولته الشهيرة ما زالت حاضرة في أذهاننا حين خاطب الإمام الخميني(قده): “نعلنُ للحسين هذا ونعلنُ لحامل رايته أننا بايعناك ووِفقًا لإرشاداتك هزئنا بالاحتلال، ولا نزال نهزأ به، ووفقًا لإرشاداتك هزئنا بالأساطيل ولا نزال نهزأُ بها”.
وتوالت معادلاته في المواجهة، وكانت أيقونتها “الموقف سلاح والمصافحة اعتراف”، التي ستبقى أبد الدهر في مواجهة العدو ورفضه ومواجهته ومؤكِّدة أن “دم الشهيد إذا سقط فبيد الله يسقط، وإذا سقط بيد الله، فإنَّه ينمو ويزكو، ولا يمكن أن يجف بل يصبح شاهِدَ صدقٍ …”.
هكذا كان دم الشيخ راغب (رض) صاحب أولى المعادلات وتوازن الردع ضدَّ الاحتلال وشاهدًا صادقًا على هزيمته واندحاره. وهكذا سيبقى هذا الدم يولِّد المعادلة الرادعة تلو الأخرى لهذا العدو في إطار الصراع الوجودي الذي نخوضه مع كيانه الغاصب.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.