الخبر: استشهاد طفل فلسطيني بعمر السبعة أعوام، ريان، على اثر سقوطه بعد أن طارده جنود الاحتلال.
يُكتب خبر كهذا بدقيقة واحدة، ويُقرأ بدقيقة واحدة، ويمرّ كما لو أنّ قتل الفلسطينيّ، بأي وسيلة كانت، هو الحالة الطبيعية، هو المحتوم والبديهيّ والمعتاد، هو الخبر الذي يُكتب في صفحات الأحداث العادية، اليومية، المتوقعة، التي لا تستدعي توقّفًا عندها لأكثر من دقيقة واحدة، على سبيل العلم بالشيء والإعلام به، على سبيل المتابعات التي تبلغ الناس أن حدث كذا، ليس إلّا!
ليس لطيفًا أن ندخل الآن في مقارنات بين الأخبار التي تحظى بتركيز إعلاميّ عربيّ وعالميّ والتي قد تتفاوت أهميّتها وحدّتها وأثرها، وبين الأحداث التي تهتزّ على وقعها الرّوح مرّتين: مرّة حين سماعها، وأخرى حين الإنصات للصمت حيالها، وكأنّها مجرّد حدث اعتدناه، ولا جرم يوازي أن تتملكنا الحيادية والسلبية حين سماع أخبار قتلنا، بل قتل أطفالنا، بالقصف وبالرصاص المباشر وبالتعذيب وبالحصار وبالمطاردة!
لقد طارد جنود الاحتلال طفلًا بعمر السابعة، اسمه ريان سليمان. ركضوا خلف ريان الذي ركض وقلبه يقفز أمامه، ركض دون أن يمتلك ترف النظر إلى الدرب التي يهرع فوقها، ويهلع فوقها، ويتملّكه الذعر فوقها. ركض ولم يتسنّ له التحديق في موضع خطواته، لعلّ قدميه تعرفان أكثر من جميع ملوك الاستعراب القذر، أنّه في فلسطين، حيثما ركض هو لا يطأ إلّا تراب موطنه.
قلبه الذي فرّ بسبب الإرهاب والترويع يدرك أنّه كيفما اتجه كلّ جهاته أرضه وترابه. ركض طويلًا، ككل أطفال عمره الذين يستهويهم الركض السريع مرحًا، لكنّ ريان كان يركض فزعًا، ركض كي لا يقع في أيدي الجنود المدجّجين بالسلاح وبغرور من تغطّى بجثة الضمير العالميّ. ركض ريان حتى سقط، حتى هوى فاحتضن التراب ومنه صعد حرًّا آمنًا إلى السماء.
ريان، له أمّ يفزعها ما مرّ ببال وليدها وهو يركض؛ فالخوف في صدر الوليد يمزّق قلب الوالدة. له أب يحدّق في السماء مودّعًا، والغصّة أن خفتَ يا فلذة روحي فَلُذتَ بسماء الله قبل أن أودّعك.
ريان له سبع سنوات من الحكايا والشقاوة وبراءة الأطفال واستعجالهم نحو الصبا والكبر. له قلب اعتاد حين الخوف أن يهرع إلى ضمّة الأهل، إلى أمان الدار، إلى حصن يُدعى أهل التراب وأهل البلاد.
ريان، له من العمر سبع سنوات وبضع دقائق من خوف رهيب، من محاولة الهروب نحو المأمن بقدمين صغيرتين، وقلب لا يحتمل هذا القدر من الإرهاب. هل بكى؟ ما يفعل أطفالكم في سنّه حين يخافون؟ طفلي بسنّه ينادي “ماما”، طفل جارتي بسنّه يخفي وجهه بيديه كي لا تُرى دموعه، طفل قريبتي يركض مسرعًا نحو بيتهم. طفلك يبكي، وطفلك أنت يناديك بصوت يرتجف. وماذا تفعلون إن خاف طفل لكم؟ أنّا أضمّه، جارتي تمسح على وجهه، قريبتي تفتح له الباب بسرعة وتشمّه، أنت تغسل له وجهه، وأنت تبتسم لتهدّىء روعه. كم مشهدًا يمرّ الآن عن خوف ريان الذي ما قيل إلّا بقلب يتوقّف!
ريان، نَم يا حبيبي. دع الطمأنينة تسري في روحك وأنت في حضن التراب الحرّ، فالمارقون الذين فوق التراب راحلون لا محالة، وأنت الباقي المحمّل بكلّ حكايا البلاد. نم يا حبيبي؛ فالملائكة سور يحصّن قلبك من أهل التخويف والترهيب. نَم على وقع آخر حكاية ستقصّها عليك أمّك قبل الإغفاء الأخير، حكاية تُروى بدمع غزير وقلب مفطور وشوق وُلد عملاقًا، وفقد يذبح صوتها من الوريد إلى وجه الوليد. نَم وكلّ القلوب تحدي لك، تهدهدك، تربّت بهدوء على كتفت، تردد: “يلا تنام.. يلا تنام”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.