عودٌ على بدء. مرة أخرى، كان العالم على موعد مع هواية إيران المفضّلة في حبس أنفاس خصومها ضمن لعبة توقيت متقنة. وفي وقت كانت تشخص فيه أنظار الإقليم وخارجه بانتظار انقشاع الضباب النووي الذي يلف محادثات فيينا الرامية إلى احياء “خطة العمل المشتركة” الموقعة بين طهران و”السداسية الدولية” عام 2015، ضجّ الإعلام العالمي بخبر غير سار لأولئك الخصوم بأبعاد كونية وصلت عنان الفضاء. “المفاجأة غير السارّة” لدوائر إقليمية تتداخل حدودها وأقطارها السياسية والأمنية من تل أبيب إلى قلب الخليج، تمثلت بإطلاق قمر صناعي إيراني عبر صاروخ روسي.
صاروخ “سويوز -2. 1B”، الذي بدأ مساره من محطة بايكونور الفضائية في كازاخستان، احتاج إلى تسع دقائق قبل أن ينجح في وضع القمر الصناعي الذي حمل اسم “خيّام” على ارتفاع 500 كيلومتر فوق سطح الأرض.
ماذا سيتيح القمر الصناعي لطهران؟
شكل الحدث محطة لافتة على أكثر من صعيد، بمضامينه الدلالية سواء لناحية تنامي العلاقات الإيرانية – الروسية استراتيجيًّا، أو لناحية انعكاساته على مستوى القدرات التقنية والعسكرية لـ “الجمهورية الإسلامية”. ووفق بعض الخبراء المتخصصين في مجال تكنولوجيا الاتصالات، يُنظر إلى أن تثبيت القمر الصناعي “خيّام”، المصنّع في روسيا بطلب من الحكومة الإيرانية، في مداره، سوف يمنح طهران القدرة على مراقبة “إسرائيل” ودول أخرى في الشرق الأوسط، بالنظر إلى احتوائه على مستشعرات بصرية بأطياف مختلفة بدقة متر واحد، مقارنة بالأقمار الصناعية الغربية التي تتمتع بدقة تناهز نصف متر، وحتى أقل كما هو الحال بالنسبة لبعض الأقمار الصناعية التجسسية الموجودة بحوزة واشنطن. وينطلق هؤلاء من تلك المعطيات، للإشارة إلى نجاح إيران في تقليص الفجوة التكنولوجية بينها وبين الغرب، على صعيد أنظمة المراقبة الجوية. ورغم النفي الإيراني المتكرر لأي كلام عن استخدامات عسكرية لـ “خيّام 1″، تعرب أوساط المؤسستين العسكرية والأمنية الأميركية عن وجود خشية جدية من أن مساعي إيران إلى توظيف حضورها المتزايد في الفضاء الخارجي، وقدراتها “السيبرانية” المتنامية، لن تقتصر على تعزيز دقة بعض أجيال الصواريخ البالستية الإيرانية، كصواريخ “شهاب” بعيدة المدى، بل قد تتعداها إلى رفد كافة أذرع قوتها الصلبة بمزايا إضافية. تلك المخاوف عينها، هي التي دفعت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى إعادة تفعيل برنامج سري، يعود إلى عهد بوش الابن، بهدف تخريب البرنامج الفضائي لـ “الجمهورية الإسلامية”، وهو ما تواصل الإدارة الأميركية الحالية العمل عليه.
في هذا الإطار، تشير صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن “خيّام 1″، تم تزويده من قبل مصنّعيه الروس، بكاميرا عالية الدقة من شأنها أن تمنح طهران قدرات جديدة لمراقبة المنشآت الحساسة في “إسرائيل” ودول الخليج. بدورها، تنقل صحيفة “نيويورك تايمز” عن خبراء عسكريين قولهم إنه سيحسّن القدرات الاستخبارية لطهران، بما في ذلك قدرتها على تحديد الإحداثيات الدقيقة لما وصفوه بـ “أهداف عسكرية محتملة” تابعة لـ “إسرائيل”، والولايات المتحدة، وأطراف أخرى في المنطقة، مع تأكيدهم على أن هذه الخطوة، تعد مؤشرًا ملموسًا على توسيع دائرة التعاون بين البلدين في مواجهة عقوبات اقتصادية غربية خانقة ضدهما. ولمزيد من الإيضاح، أفاد الباحث في الشؤون العسكرية، تال انبار، بأن القمر الصناعي الإيراني الجديد “سوف يكون قادرًا على توفير صور جوية بدقة أكبر”، مؤكدًا أن الأمر يمثل “تحديًا كبيرًا لـ”إسرائيل””. ويلفت انبار، إلى أن امتلاك إيران للمرة الأولى قمرًا صناعيًا بالمزايا التي يحملها “خيّام 1″، يمكن عدّه “اختراقًا جوهريًا” على صعيد أنظمة المراقبة الجوية لطهران ورفع سقف التحدي التكنولوجي الذي تشكله الأخيرة بالنسبة لتل أبيب، مشدّدًا على أن القمر الصناعي الجديد أكثر حداثة من أقمار صناعية أخرى سبق أن أطلقها الإيرانيون. ويكمل انبار أنه “من الآن فصاعدًا، ستكون لدى الإيرانيين القدرة على جمع معلومات استخبارية بصورة أدق، بما يتيح لها توظيفها في العمليات العسكرية لقواتها، أو لقوات المنظمات المسلّحة التي تدعمها” على امتداد الشرق الأوسط، مضيفًا أن تلك المزايا تشمل القدرة على “إدارة عمليات عسكرية في الوقت الحقيقي” عند اللزوم ضمن منطقة جغرافية واسعة.
طهران “تتسيّد أقاصي الكون”: “التهديد بات أكبر مما يمكن أن تسمح به واشنطن أو تتقبّله”!
بدورها، استعرضت مجلة “فورين بوليسي” أبرز محطات البرنامجين الصاروخي والفضائي لـ “الجمهورية الإسلامية” منذ بدء العمل عليهما في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وصولًا إلى تأسيس “وكالة الفضاء الإيرانية” و”مجلس الفضاء الأعلى” عام 2003 في عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي، وإطلاق القمر الصناعي “سينا 1″، على يد شركة روسية بعدها بعامين. وفي مرحلة لاحقة، تم إطلاق أول قمر صناعي بتصنيع إيراني، عن طريق صاروخ “سفير 1″، عام 2009 في عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، قبل أن يسجّل مطلع العام 2010 دخول البرنامج الفضائي الإيراني طورًا جديدًا مع الكشف عن صاروخ “سيمورغ”، الحامل للأقمار الصناعية. الصاروخ الجديد، وهو يعمل على مرحلتين، ويستند إلى تكنولوجيا الصاروخ الكوري الشمالي “نودونغ”، يتمتع بمزايا أكبر من نظرائه من الجيل السابق، لناحية القدرة على حمل أوزان تصل إلى 250 كيلوغرامًا، مقارنة بخمسين كيلوغرامًا للصاروخ “سفير”. ومنذ العام 2016، شكل “سيمورغ” الرافعة الأساسية لإطلاق الأقمار الصناعية الإيرانية. واعتبرت المجلة الأميركية أن التطورات الأخيرة أظهرت أن “إيران تتسيّد أقاصي الكون”، مضيفة أن “القوة العسكرية الإيرانية تتقدّم بصورة غير مسبوقة نحو الاقتدار في الفضاء الخارجي”. ورأت المجلة أن التهديد الذي حملته تلك التطورات “بات أكبر مما يمكن أن تسمح به واشنطن أو تتقبّله”.
ووفق تقييم خبراء غربيين، فقد حقق البرنامج الفضائي الإيراني، في العقد الأخير، خطوات جبارة على طريق الالتحاق بركب الدول الكبرى في هذا المجال، كروسيا والصين والولايات المتحدة. ويؤكد الباحث المتخصص في السياسات والاستراتيجيات السيبرانية، جيل بارام، أن افتتاح إيران مركزًا لرصد حركة الفضاء الخارجي، في العام 2013 ، يمثل “خطوة أولى حاسمة نحو مراقبة الأجسام الطبيعية، والصناعية” في ذلك الفضاء. ويشدد الباحث على أن نجاحات “الجمهورية الإسلامية” في الميدان الفضائي تركزت حتى الآن ضمن نطاق المدار الأرضي المنخفض، على مسافة 1200 كيلومتر من سطح الأرض، وهو النطاق الذي يسجّل أعلى معدلات نشاط الأقمار الصناعية التي ينحصر دورها في نطاق ضيق على صعيد الاتصالات، ورصد حركة الأرض. ويحاول الباحث أن يستشرف نوايا طهران في هذا المجال، موضحًا أن الحكومة الإيرانية ترمي إلى إيصال مجموعة متنوعة من الأقمار الصناعية التابعة لها، إلى أماكن أبعد من نطاق المدار الأرضي المنخفض المشار إليه، نحو نطاقات المدار الأرضي المتوسط (MEO) والمدار الأرضي الجغرافي المتزامن مع الأرض (GEO)، وهي نطاقات تقع على بعد يتجاوز 20 ألف كيلومتر من سطح الأرض. ويشرح بارام أن تلك النطاقات تستخدم لأنظمة الملاحة على غرار نظام تحديد المواقع GPS الأميركي، وكذلك أنظمة البث عبر الإنترنت والتلفزيون والراديو، لافتًا إلى أن ذلك يشير إلى وجود نوايا لدى الجانب الإيراني لامتلاك قدرات ردع فضائي في وجه محاولات دول معادية له لعسكرة الفضاء الخارجي، مثل الولايات المتحدة التي أسست في العام 2018 ما أطلقت عليه تسمية “القوة الفضائية”.
ويسهب الباحث في معهد البحوث السيبرانية التابع لجامعة تل أبيب، أن إيران واظبت ببطء، ولكن بوتيرة ثابتة، على تحسين منظومات الاستطلاع والإنذار المبكر لديها، مشيرًا إلى تمكّن القوات الإيرانية في إحدى المرات من اختراق نظام تحديد المواقع GPS على متن مسيّرة أميركية، وتعطيله باستخدام تقنيات تشويش متقدّمة مضادة للأقمار الصناعية. ويعرب بارام عن مخاوفه من أن مواصلة الإيرانيين تكنولوجيا المراقبة وتحديد المواقع عن طريق الأقمار الصناعية الخاصة بهم، سيوفر لهم القدرة على مهاجمة أهداف في الفضاء الخارجي، لا سيما الأقمار الصناعية المتصلة بمنظومة القيادة والسيطرة التابعة لأعدائها.
وبعد نجاح الإطلاق الأخير لقمر “خيّام 1” الإيراني، بمساعدة تقنية روسية، يحضر السؤال: هل رفعت موسكو أخيرًا القيود المفروضة طواعية على تعاونها الفضائي مع طهران، على وقع تصاعد حدة المواجهة مع الغرب؟ وهل يمكن أن يؤسس ذلك التعاون إلى المرحلة التالية من “الفتح الفضائي” للجمهورية الإسلامية نحو المدارات الأرضية العليا MEO و GEO، والتأسيس لقدرات عسكرية ردعية انطلاقًا من الفضاء الخارجي؟
الدوافع الروسية: تعزيز التعاون مع طهران خيار راديكالي تلوّح به موسكو
حتى الأمس القريب، بدت فكرة أن تبادر روسيا إلى بيع تكنولوجيا فضائية حسّاسة إلى إيران، لا سيما تلك المتعلقة بتزويدها بأقمار صناعية لأغراض الاستطلاع والمراقبة الجوية، احتمالًا بعيدًا عن الواقع، وخيارًا يكاد يعادل إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة ضد موسكو، بسبب تبعاته “الخطرة” على ميزان القوى العسكري والتكنولوجي ضمن منطقة يراد لها أن تحتكر فيها “إسرائيل” كل مقومات التفوق بكافة مسمياته وأشكاله.
وكما جرت العادة في حالات مشابهة، وفي كل مرة تعلق فيها الأمر ببند من بنود التعاون الروسي مع إيران في المجالين التقني والعسكري، تعرّضت موسكو لجملة ضغوط غربية، أميركية في الأساس، لثنيها عن بيع أو إطلاق أقمار صناعية لصالح طهران، على غرار “خيّام 1”. ففي مرات سابقة، نجح ذلك النوع من الضغوط في وقف صفقة بيع نظام S-300 الروسي المضاد للطائرات لطهران عام 2010، لأسباب عدة، أبرزها محاولة الروس وقتذاك البقاء على مسافة واحدة من أزمة “النووي الإيراني”، وحاجتهم إلى التعاون مع الأميركيين والأوروبيين في أكثر من ملف، حتى باتت تلك الصفقة خلال مرحلة من المراحل عنوانًا لفتور نادر في العلاقات الروسية- الإيرانية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق.
أما اليوم، فيبدو الواقع مغايرًا بحيث تستشعر موسكو وطأة العقوبات السياسية والاقتصادية الغربية ومحاولة عزلها وحصارها دوليًا على خلفية الحرب في أوكرانيا. فلطالما احتفظت القيادة الروسية بورقة تعزيز العلاقات مع طهران إلى مستويات غير مسبوقة، كخيار راديكالي “حرج” في سياستها الخارجية متاح عند اللزوم في وجه الخصوم الاستراتيجيين. وها هي اليوم تتبناه أخيرًا، من خلال إطلاق قمر صناعي إلى الفضاء صنّعه خبراء روس لحساب الحكومة الإيرانية، مع إتاحة نقل تكنولوجيا تصنيعه إلى الإيرانيين. وهذا ما أشار إليه صراحة وزير الاتصالات وتقنية المعلومات الإيراني عيسى زارع بور، حين أفاد بأن مشروع “خيّام”، والذي من المقرر أن يشمل تصنيع وإطلاق عدة أقمار صناعية روسية مماثلة بالتعاون مع طهران، كان “سرّيًا”، كاشفًا أنّ روسيا تعرضت لكثير من الضغوط لعدم نقل هذه التكنولوجيا إلى إيران. كما تجدر الإشارة إلى أن بادرة موسكو الأخيرة ذات الأبعاد الاستراتيجية “الصارخة”، جاءت بعد تهديدات “وكالة الفضاء الروسية” (روسكوسموس)، بقطع كافة أوجه التعاون مع الغرب، وخصوصًا على صعيد نقل رواد الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية، معربة عن عزمها الانسحاب من العمل في المحطة بحلول العام 2025 إذا لم يتم رفع العقوبات عنها.
تأسيسًا على ما سبق، يشير محللون غربيون إلى أن موسكو لجأت في الآونة الأخيرة إلى توثيق علاقاتها الخارجية بدول من افريقيا، والشرق الأوسط، من ضمنها إيران، بهدف الركون إلى تلك الدول كمصادر دعم دبلوماسي وتجاري، وذلك في إطار جهودها الحثيثة لتأييد لعمليتها العسكرية في أوكرانيا، وتوسيع هامش المناورة السياسي والاقتصادي لديها للرد على العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد روسيا، في الحد الأقصى، أو التكيّف مع تلك العقوبات في الحد الأدنى. فمن منظورهم، تحاول روسيا إغراء حلفائها الحاليين، وعلى نحو خاص الدول الوازنة منهم، إضافة إلى استمالة حلفاء محتملين من خلال إظهار قدرتها على إطلاق أقمار صناعية إلى الفضاء، كإحدى ثمار التعاون معها. بالتزامن، نقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن مسؤولين أميركيين قولهم إن الجانب الروسي أبلغ المسؤولين الإيرانيين بوجود رغبة لدى موسكو لاستخدام المعطيات التي سوف يتولى القمر الصناعي الإيراني تجميعها من الفضاء الخارجي خلال الأشهر القليلة المقبلة، من أجل توظيفها في العمليات العسكرية الدائرة على الأراضي الأوكرانية، وهو أمر نفته طهران.
وعن جانب آخر للدوافع الروسية الكامنة خلف دفع “تعاونها الفضائي” مع طهران، تتوقف تقارير أميركية عند نظرة روسية مستجدّة إلى طهران باعتبارها “مصدرًا لاكتساب خبرة التكيّف مع العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة، وأطراف غربية أخرى”، موضحة أن موسكو تولي اهتمامًا للاستفادة من تجربة إيران على صعيد “الاقتصاد المقاوم”، لا سيما من باب قضيتين أساسيتين، الأولى تتعلق بكيفية التحايل على العقوبات المصرفية، والثانية تتصل بسُبل صيانة الطائرات في ظل تعذّر الحصول على قطع غيار مصنّعة غربيًا.
ولعل المؤشر السياسي الأبرز خلف الحدث الفضائي، هو أن عملية إطلاق “خيام 1″، جاءت بعد أقل من شهر من زيارة الرئيس الروسي إلى العاصمة الإيرانية، طهران، ولقائه المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي، ذلك أن موسكو تحاول أن تظهر بمظهر “القوة الفاعلة” على المسرحين الدولي والإقليمي، والتي لا يمكن تهميشها أو احتواؤها، إضافة إلى إفهام الغرب أن أوراق قوتها تتعدى غاز أوروبا، إلى فضاء الشرق الأوسط.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.