تلك الأرض القاحلة أنبأت عن سرّها أوّل الآدميّين، لتبدأ مع أوّل قطرة دمعٍ حكاية انتصار الدّم مهما تكالب الظالمون. كلّ من مرّ بها كان يشعر بالعزّة الممزوجة بالحنين، فيذرف أيضًا لها دمع عين، لا غرابة إنّه حبّ الحسين.
مفتاحٌ ليس من السّهل أن تجده بين ركام الثّورات الموروثة، فلطالما ضُرّجت أرضٌ بدماء، ولطالما استبسل الفرسان في ساحات النضال واسترجاع فضلات الحقوق، ليس استصغارًا للبطولات الخجولة، لكنّها هي من سيعترف بأنّ فارس كربلاء كان صوتها الأقوى ومنه استلهمت فتات ما عرفت من معاني التحرّر والثّورة.
كربلاء، صحراءٌ رسمت على وجه الزّمن خطوطًا بحبرٍ قرمزيّ أضاءت عالم الإنسان بنورٍ كلمة الحقّ، ليست بعشوائيّة فنّانٍ يُعبّرعمّا يختلج داخلَه، بل هي الصراط المستقيم المتفرّد بسرعة الوصول ودقّة بوصلته، فكانت تلك الخطوط أمهر فنّ وأرقى لغة تعبير عن المظلوميّة وأبرع حضارة انتصار، فاقت الإمكانات والتّطوّر منذ الأزل وإلى الأبد.
من أخرج عن الصّحراء جفافها، هو سيل الفرات الهادر بصمت العطاشى مع صلابة الصمود، فبات القصّة القصيرة في رحلة ألم الإنسانيّة، فالعظمة لها قصص أشدّ رمزيّةً من عطش الماء، إنّه عطشٌ من نوع الشوق للتفاني في سبيل غايةٍ عُظمى لا تُدرك إلّا بذبح الوتين والقرابين، فلأجلها سُقي الرّضيع سهمًا في الوريد، ولأجلها سفكت دماء نقيّة وحُزّت رؤوس، ولأجلها سُبيت العفّة على الناقة العجفاء في حرّ الهجير. لم يبقَ من سيتسلّم زمام حكمٍ بعد النصر، ولم يبقَ سوى رأسٍ فوق رُمح ينطق بلغة العالم كلّ حين ليُخبر سلالة الآدميّين كيف انتصر لربّه وكيف مدّه ربّه بالعزّة والنصر والخلود.
إنّها ثورةٌ من نوعٍ أرقى وأسمى، ثورةٌ من نوع الكمال البشريّ، فيها الهدف أعلى من حُطام الشّهرة أو السّلطة أو حتّى الرّيادة، إنّها سبيلٌ واحدة يسلكها كل من يهب لإنسانيّته حق الحياة وحق التكامل، فصوت كربلاء لا يزال يتردّد صداه في أسماع كَتَبة التاريخ ليبقى جبرًا لمكسوري الإرادة، وكسرًا لفرعنة الأحقاد والشيطنة.
بالجراح صُنعت قوارير شفاء أسقام التفرّد والأنانيّة، وبالبيان الأبلغ نُقِشت حروف مواقف الشّجاعة في الأذهان رغم تقادم الأزمان، وبالخُلُق الرّفيع صيغت مواثيق ودستور المجتمع البشريّ على مستوى الأفراد والجماعات ، فمدرسة كربلاء هي لطلّاب الحقيقة بأنصع وجوهها، هي مدرسة كرامة الإنسان، مدرسة الأجيال ولو طالها التقدّم المادّيّ، بل لهذه المدرسة أن لا يجاريها إلّا الإبداع العلمي والتميّز؛ فهي مدرسة الحياة، وأجمل حياة، حيث يكون العدل مصداقًا من مصاديق الحُكم، والرّقيّ الإنسانيّ متكاملًا بشقيّه المادّيّ والمعنويّ.
كربلاء كانت صحراء، تحت رمالها سفينة نجاةٍ، ومصباح هدى، كربلاء ستبقى قبلة صلاة الإنسانيّة الأولى والأخيرة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.