الاستشارات النيابية المُلزمة.. قراءة في الإشكاليات الدستورية والمعوّقات العملية

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

حسن محمود* – خاص الناشر |

كان رئيس الجمهورية اللبنانية يجري استشارات نيابية غير ملزمة يطّلع خلالها على آراء النواب دون أن يكون لها أثر قانوني أو دستوري في تحديد هوية الرئيس المكلّف. فقد نصّت المادة 53 من دستور ما قبل اتفاق الطائف على أن لرئيس الجمهورية الحق في تعيين الوزراء وتسمية واحد منهم رئيسًا، إلا أن عرفًا نشأ بالممارسة قضى بأن يجري رئيس الجمهورية استشارات نيابية، تشمل جميع النواب، يصار بعدها إلى تسمية رئيس للوزراء، ومن ثم يعمد رئيس الوزراء المكلف بدوره إلى إجراء استشارات نيابية من أجل تأليف الحكومة، على أن يطلع رئيس الجمهورية على مختلف مراحل الاستشارات، ويشترك معه في اختيار الوزراء وتأليف الحكومة. ولكن في الحقيقة كان رئيس الجمهورية صاحب الدور الأساسي في عملية تأليف الحكومة قبل اتفاق الطائف “فرئيس الوزراء المكلف يقوم بدور مهم في الاستشارات النيابية، غير أن هذا الدور يبقى ثانويًا بالنسبة لدور رئيس الجمهورية”.

يؤكد هذا الواقع سلوك النواب أثناء الاستشارات النيابية التي تسبق تسمية رئيس الحكومة، إذ إن غالبية الكتل البرلمانية كانت تترك لرئيس الجمهورية حرية اختيار الشخص المناسب لتولي هذا المنصب، فمثلًا في عام 1957 وعلى أثر استقالة حكومة الرئيس عبد الله اليافي، احتجاجًا على السياسة الخارجية لعهد الرئيس كميل شمعون، عيّن شمعون، سامي الصلح رئيسًا للحكومة ووفّر له دعمًا برلمانيًا كبيرًا، فنال ثقة المجلس. كما اختار رئيس الجمهورية شارل الحلو، الرئيس عبد الله اليافي لتأليف حكومة، رغم حصول الرئيس رشيد كرامي على العدد الأكبر من الأصوات خلال الاستشارات النيابية العرفية “غير الملزمة”. وقد دافع الرئيس صائب سلام عن تكليف الرئيس شارل حلو لليافي خلافًا لاتجاه النواب فقال إن: “الرئيس ليس علبة بريد ولا صندوق اقتراع”، معتبرًا أن “الرأي النيابي لو كان ملزمًا بهذا المعنى لوجب على فخامة رئيس الجمهورية إما أن يبعث بصندوق مغلق إلى هذه القاعة أو يضع صندوقًا مغلقًا في قصر الرئاسة فيأتي كل نائب ويضع ورقته فيها للتصويت لفلان أو لفلان. هذا ليس هو الشيء المقصود في النظام البرلماني الذي نمارسه. إن المقصود من الاستشارات النيابية أيها السادة، هو أن يكون لفخامة رئيس الجمهورية رأي صحيح يتقبله هذا المجلس ويؤيده” (محضر جلسة 28 نيسان 1966).

هذا المسار استمر لاحقًا حين كلّف الرئيس إلياس سركيس العميد نور الدين الرفاعي في أيار 1975 برئاسة الحكومة ضد إرادة أكثرية النواب. وفي العام 1976 كرّر الرئيس سركيس الأمر عينه مع تكليف الدكتور سليم الحص تشكيل الحكومة. وعن هذا يقول الرئيس الحص: “إن الرئيس الراحل الياس سركيس لم يأت بي بعد إجراء مشاورات نيابية منتظمة، ولو فعل لما رشحني أحد من النواب لمجرد أنني لم أكن قد مارست السياسة أو لامستها من قبل. فالحقيقة تبقى قائمة وهي أن تسمية رئيس الوزراء كانت في تلك الحال وليدة اقتناع أو اجتهاد شخصي من رئيس الجمهورية ولم يكن للإرادة النيابية شأن بها”.

بعد الطائف
خلال مداولات النواب في الطائف تم تقديم اقتراح إصلاحي يرتبط بتوازن السلطة التنفيذية خلاصته أن يتم انتخاب رئيس الحكومة في مجلس النواب أو أن تتم تسميته من قبل الرئيس بعد أن يقوم الرئيس باقتراح اسمه على المجلس النيابي للتصويت عليه، إلا أن الاقتراح رُفض تحت حجة أنه يتعارض مع النظام البرلماني ويذهب بالنظام اللبناني نحو صيغة النظام المجلسي. وانتهت وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) إلى حل وسط بين انتخاب رئيس الحكومة بالاقتراع في مجلس النواب ما يؤدي إلى منحه شرعية مماثلة لشرعية رئيس الجمهورية المنتخب في مجلس النواب أيضًا وبين استمرار العرف القديم المتكوّن في كنف المادة 53 قبل تعديلات الطائف حيث يملك الرئيس الصلاحية المطلقة في اختيار رئيس الحكومة بمعزل عن اتجاهات المجلس النيابي ومشورته غير الملزمة. فكانت التسوية في جعل الاستشارات النيابية ملزمة، ما يعني أن رئيس الجمهورية يحتفظ بدور ما خلال عملية التكليف لكنه لا يستطيع أن يرفض إرادة واضحة لغالبية النواب.

الاستشارات النيابية الملزمة في دستور 1990
نصّت المادة 53 من الدستور اللبناني على لزوم أن يجري رئيس الجمهورية اللبنانية استشارات نيابية ملزمة يختار استنادًا الى نتائجها اسم رئيس الحكومة المكلف تشكيل مجلس الوزراء. وقد اكتفت المادة بالنص التالي: “يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استنادًا إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسميًا على نتائجها”.

هذه المادة التي أُريد لها أن تكون حلًا تحوّلت بدورها الى مشكلة، فهي مادة غامضة كما كثير من المواد الدستورية اللبنانية وتطرح أسئلة مستعصية الإجابة وذات قيمة سياسية ودستورية، منها على سبيل المثال لا الحصر:

• هل الاستشارات النيابية ملزمة بمعنى لزوم إجراء الاستشارات بمعزل عن إلزامية النتائج المتحصلة عنها أم أنها ملزمة بنتائجها بمعنى يجب على الرئيس حال إجرائها أن يلتزم بنتائجها؟

• إذا افترضنا أن نتائج الاستشارات هي الملزمة لا أصل إجرائها فحينها نكون أمام سلسلة من الإشكالات الدستورية والسياسية، فهل تعتبر الاستشارات شكلًا من أشكال الانتخاب فيكون رئيس الحكومة منتخبًا من المجلس النيابي كما رئيس الجمهورية؟ وإن كان كذلك فهل يعني هذا أنه يقتسم الشرعية الدستورية معه؟ وإذا لم تكن الاستشارات شكلًا من أشكال الاقتراع الانتخابي فما هي طبيعتها؟ وما هي قيمة نتائجها؟

• وتأسيسًا على السؤال السابق لو فرض أن الاستشارات لها صفة انتخابية فلماذا جعل النص الدستوري أمر التسمية مشروطًا بسبق التشاور بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب؟ وما هي قيمة هذا التشاور؟ وما هو تأثيره على نتيجة الاستشارات الملزمة؟ وكيف يصح أن تكون ملزمة بنتائجها ثم يجري التشاور بشأنها بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب؟

• إذا أسفرت الاستشارات النيابية عن تسمية رئيس مكلف بأغلبية 65 نائبًا سمّوه رئيسًا للحكومة فهل يجب على رئيس الجمهورية أن يسمّيه؟ وما قيمة التشاور بشأنه مع رئيس المجلس؟ وماذا لو أسفرت الاستشارات عن اسمين لكل منهما 64 صوتًا أو ثلاثة أسماء لأحدها 60 صوتًا وللثاني 40 صوتًا وللثالث 28 صوتًا؟ وضمن هذا المنطق يمكن طرح الكثير من الافتراضات، فهل يدعو الرئيس إلى إعادة الاستشارات بانتظار حصول أحد الأسماء أو غيرها على 65 صوتًا؟ أم له أن يختار أي اسم من الثلاثة حسب الفرض أو لا بد له من اختيار الحاصل على العدد الأكبر من الأصوات حتى وإنْ لم تبلغ النصف زائدًا واحدًا؟

إن المادة 53 من الدستور فتحت بابًا واسعًا للجدل حول طبيعة الاستشارات ونتائجها وتركت المجال متاحًا أمام الاجتهاد بشأنها وبشأن نتائجها، كما اعطت هامشًا عريضًا للمناورات السياسية حول مرادها ومساراتها.

لم يلزم الدستور اللبناني رئيس الجمهورية بمهلة زمنية ينبغي له خلالها أن يجري الاستشارات النيابية بل ترك للرئيس حرية تحديد مواعيدها بإرادته المنفردة ما يعني أن بإمكان الرئيس نظريًا وبمعزل عن الواقع السياسي أن يؤجل الاستشارات ولا يجريها إلا في الوقت الذي يختاره ودون الالتزام بمهلة زمنية محددة. وإذا لاحظنا أن الاستشارات النيابية إنما تجري في ظل حكومة تصريف أعمال بالمعنى الضيّق حسب المادة 64 من الدستور، فيمكن لنا حينها أن ندرك حجم قيمة الصلاحية المنفردة التي يملكها الرئيس ومن خارج المهل الزمنية ومدى تأثيرها على مسارات عمل الدولة والحياة السياسية عمومًا في لبنان. ومع ضم السقف المفتوح لاستشارات التكليف إلى السقف المفتوح لعملية التأليف يتضح لنا أن السلطة الإجرائية في لبنان، وهي مجلس الوزراء، والتي أناط بها الدستور صلاحية إدارة الدولة بكل شؤونها، يمكن أن تبقى في فترة تصريف أعمال بالمعنى الضيّق إلى ما لا نهاية.

النقاش حول إلزامية النتائج أو إلزامية إجراء الاستشارات استمر طويلًا، وقد أشار الدكتور إدمون نعيم إلى وجود تناقض بين العبارتين المستعملتين في نص المادة 53، إذ كيف يصح أن تكون “استشارات” وأن تكون “ملزمة”؟ لذا ذهب عدد من الباحثين إلى اعتبار الاستشارات ملزمة في إجرائها غير ملزمة في نتائجها. وقد نسبت جريدة “الأنوار” اللبنانية في عددها الصادر في 13-11-1998 إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، قوله إن الرئيس ليس صندوق اقتراع، وإنه غير مقيّد بنتائج هذه الاستشارات العددية. غير أن فريقًا دافع عن إلزامية النتائج معتبرًا أن رئيس الجمهورية بات بموجب النص الجديد ملزمًا باتباع الأصول الجديدة في التسمية باحترام الاستشارات الملزمة ونتائجها، فقد انتقلت التسمية من رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب وأصبح رئيس مجلس الوزراء بحكم الدستور رئيسًا منتخبًا بالفعل، وإنْ لم يسمَّ ذلك انتخابًا من قبل المجلس النيابي.


وهذا ما أكد عليه الدكتور أحمد سرحال، عندما قال: “لو لم تكن ملزمة لما كان من داع لتأكيد صفتها الملزمة بإضافة هذه العبارة واللازمة إلى عبارة استشارات، والتي لو بقيت دون هذا النعت بالملزمة لأمكن وجاز القول بأنها مجرد استطلاع ووقوف على رأي النواب واستمزاج لمواقفهم دون موجب العمل أو الأخذ بها”. غير أن هذا الرأي يمكن التعقيب عليه بالقول إن إضافة عبارة الملزمة إنما كان بغرض تقنين العرف، بمعنى أن النص السابق للمادة لم يكن يلزم الرئيس بإجراء أي مشاورات بل يعيّن الوزراء ويسمي منهم رئيسًا، وإنْ كان العرف قائمًا على استشارة النواب إلا أنه عرف مخروم بالعمل بعكس نتائجه غير مرة، كما أشرنا سابقًا. وعليه، يمكن تفسير الإلزام بأنه إجراء ملزم لا عرفي وهذا الإلزام يمكن للرئيس أن لا يعمل بنتائجه، خصوصًا وأن المجلس النيابي يملك أن لا يمنح الثقة للرئيس المكلف وحكومته، وبهذا يحافظ على إلزامية آراء أعضائه دون المسّ بحق الرئيس في تسمية رئيس الحكومة، وهذا منسجم مع طبيعة النظام البرلماني أكثر من القول بإلزامية النتائج الذي يمسّ بجوهر صلاحيات الرئيس.

الرئيس السابق لمجلس النواب حسين الحسيني يدحض الطابع الشكلي للاستشارات، ويؤكد على إلزامية نتائجها بالقول “إن الاستشارات النيابية هي ملزمة لتسمية رئيس الحكومة وليست شيئًا شكليًا، وإلا كان يمكن للنواب أن يرسلوا إلى رئيس الجمهورية رسائل من دون أن يعطلوا له وقته”. كذلك الأمر، يجزم النائب والوزير الأسبق حسن الرفاعي بأن “عبارة ملزمة الواردة في الفقرة الثانية من المادة 53 من دستور ما بعد الطائف واضحة وليست بحاجة إلى تفسير، وأن لا معنى للجدل القائم حول ما إذا كانت الاستشارات ملزمة بإجرائها ونتائجها أم فقط بإجرائها، لأن كونها ملزمة يعني أنها تلزم أحدًا ما، وهو هنا رئيس الجمهورية دون سواه، وبالتالي فإن نتائجها ملزمة حتمًا له، ولو لم تكن كذلك لقلنا إنها إلزامية على النواب وغير ملزمة لأحد”.

ويرى الدكتور موسى إبراهيم أن الاستشارات النيابية الملزمة جاءت بديلًا لانتخاب رئيس مجلس الوزراء من النواب، وهذه الصيغة جاءت لحفظ موقع رئاسة الوزراء وعدم إخضاعها بالكامل لسيطرة المجلس النيابي، كما جاءت لحفظ موقع رئيس الجمهورية ولو شكليًا في تسمية رئيس الحكومة، مع إعطاء دور لرئيس مجلس النواب من خلال اطلاعه على نتائج الاستشارات التي هي ملزمة بإجرائها ونتائجها، وإذا لم تكن ملزمة بنتائجها لماذا يجب أن يطلع رئيس المجلس عليها؟ فهل من المنطق استدعاء رئيس مجلس النواب وإبلاغه أن الأكثرية النيابية قالت كذا، ونحن سنعمل برأي مختلف؟ ولو لم تكن ملزمة بنتائجها لماذا يجري تدوينها من قبل مدير عام رئاسة الجمهورية؟
غير أن بالإمكان نقض هذا الطرح أيضًا بالقول إن إطلاع رئيس مجلس النواب على هذه الاستشارات والتداول معه بشأنها هو دليل على عدم إلزاميتها لا العكس، وإلا فما معنى التداول بشأن نتيجة ملزمة؟ كما أن الوجه الأقرب إلى طبيعة النظم البرلمانية أن يكون التداول بهدف تقييم القرار الذي سيتخذه الرئيس بخصوص التسمية، لا سيما وأن الرئيس المكلف وحكومته سيعودان معًا إلى مجلس النواب للحصول على الثقة، وما دام كذلك، فالتداول يكون بهدف البحث في إمكانية الحصول على الثقة المطلوبة لو سار الرئيس بعكس اتجاه الاستشارات ما يعني أنه يملك هذا الخيار ولو نظريًا فقط.

ومن الملاحظ أنه خلال تشكيل حكومات ما بعد الطائف، اتبعت الاستشارات الملزمة إجراءً ونتائج ولم تثر أية نقطة حولها، ويمكن القول إن العرف الدستوري قائم في الجمهورية الثانية على أن يكلف الاسم الحاصل على الاكثرية في الاستشارات.
علمًا أننا لم نصطدم ولو مرة واحدة باستشارات لم يحصل فيها أي اسم على أقل من 65، ولم نتعامل مع فرضية أن تنقسم التسميات إلى أرقام متساوية، مثلًا 42 صوتًا لثلاثة أسماء، ولم نجب عن أسئلة مثل: هل تتم إعادة الاستشارات أو يختار الرئيس من يراه مناسبًا ثم يترك للمجلس أمر الثقة من عدمها؟ إن هذا الغموض يجعلنا نميل إلى كون التشاور بين الرئيس ورئيس مجلس النواب له طابع تقديري لمثل هذه الحالات، وبالتالي يجعلنا أقرب إلى القول بعدم إلزامية النتائج قطعًا ما دام أحد لم يحصل على 65 صوتًا أو أكثر، وإلى كونها ملزمة سياسيًا لا دستوريًا مع تجاوزها للأكثرية المطلقة، وإلا تحوّلت المادة 53 إلى مادة تعطيلية، لا سيما في فترات الأزمة والانقسام.

مشكلة التفويض
عام 1998، وخلال فترة ما عرف باسم “أزمة التكليف”، انشغلت الأوساط القانونية بمسألة دستورية خلافية أثارتها المادة 53 من الدستور، حيث انقسمت الآراء حول جواز أن يفوّض النائب حقه في تسمية رئيس الحكومة إلى رئيس الجمهورية، بحيث يسمي رئيس الجمهورية نيابة عن النواب الذين فوّضوه صلاحيتهم لتسمية الشخص الذي يراه مناسبًا لتشكيل الحكومة.

الرئيس رفيق الحريري، الحائز على 83 صوتًا في تلك الاستشارات محلّ الخلاف، اعتبر يومها أن قيام 31 نائبًا بتفويض رئيس الجمهورية حق اختيار من يراه مناسبًا لرئاسة الحكومة مخالف لأحكام الدستور (الفقرة الثانية من المادة 53)، وحيث إن هذه المادة بعرف الرئيس الحريري “ميثاقية”، فلا يجوز تجاوزها ولا يستطيع هو التغاضي عن خرقها، واعتذر عن عدم تشكيل الحكومة.

وأيّد الرئيس سليم الحص الرأي الدستوري الذي تبناه الرئيس الحريري، ولكنه لم يرَ في موقف رئيس الجمهورية مخالفة دستورية. ويوافق الدكتور أحمد سرحال على هذا الرأي في عدم جواز تفويض السلطة المشترعة للسلطة الإجرائية لاختصاصاتها أو لجزء منها أو بالعكس عندما يقول “إن مهمة النواب في تسمية مرشحيهم لرئاسة الحكومة كمهامهم الانتخابية المتنوعة من الحقوق والفرائض التي أفردتها السلطة التأسيسية، واستطرادًا الدستور، لصالحهم وعلى عاتقهم، وذلك بالنظر لحيثيات وضمانات يوفرها المركز القانوني للنواب ويفتقدها مركز رئيس الجمهورية من كون هؤلاء منتخبين من قبل الشعب مباشرة، وعلى اعتبار أن مسؤولية الحكومة ورئيسها أمست تستوي أمام مجلس النواب وليس أمام رئيس الجمهورية”. ويضيف الدكتور أحمد سرحال أن رئيس الجمهورية إميل لحود فعل حسنًا عندما لم يتصرف بأصوات أولئك النواب الواحد والثلاثين الذين فوضوه الاختيار بدلًا عنهم، ولم يحتسبهم أو يجيرهم لصالح أي من الأشخاص المسمين لرئاسة الحكومة من قبل النواب.

وإذا ما تكررت ظاهرة التفويض، فإننا سنكون أمام اشكالية كبيرة خاصة مع كون عدد المفوضين 64 أو أكثر، فهل يلغى التفويض وتحتسب الأكثرية على أساس غير المفوضين؟ أم تجري إعادة الاستشارات؟ إن القول بعدم إلزامية النتائج يعطي مجالًا لحل هذه الإشكالية، حيث الرئيس يملك حق التسمية بمعزل عن اتجاه الأغلبية النيابية، وإنْ كان المجلس يملك حق عدم منح الثقة للحكومة عندما تعرض بيانها عليه في جلسات الثقة، وهذا يخلق نوعًا معقولًا من التوازن بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في نظام معتلّ كالنظام اللبناني.

برلمان 2022
كانت الحياة الدستورية اللبنانية تتحرك في إطار التسهيلات التي تقدمها الدول الراعية والضامنة للتسويات السياسية اللبنانية، لكن مع انكسار المعادلات الناظمة لهذه الضمانات الراعية ظهر النظام اللبناني المشكّل في الطائف على حقيقته كنظام تعطيلي أكثر من كونه نظامًا برلمانيًا أو مجلسيًا. من هنا، تبدو استشارات الثالث والعشرين من شهر حزيران 2022، وهي الاستشارات الأولى لبرلمان 2022، واعدة لجهة ما سينتج عنها من إشكالات دستورية، لا سيّما مع تصاعد احتمال الانقسام في التسميات وعدم حصول مرشح بعينه على أكثرية 65 صوتًا، وهو الرقم الوحيد القادر على قطع النزاع كليًا، وإلا ستتسع دائرة الاجتهاد حول الدور التقديري للرئيس في مثل هذه الحالات.

إن غياب الأكثرية الواضحة في مجلس النواب بالتزامن مع غياب المعادلات السياسية الراعية واتساع شقة الخلاف بين القوى السياسية والطائفية اللبنانية، من شأنها أن تجعل كل الاستحقاقات الدستورية تعطيلية.

  • باحث لبناني
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد