الدعوة التي أطلقها من يسمون “نواب التغيير” لحراك قانوني وشعبي ضد العدو الإسرائيلي واستخراجه الغاز من مياهنا تعيدنا بالذاكرة إلى نفس التكتيك الذي اعتمد ابان الاحتلال الصهيوني للشريط الحدودي بمواجهة المقاومة والالتفاف عليها بمشروع “جزين اولًا”. وهذا ليس من إبداعات العقل الكياني انما هو التزام بتوجيهات أمريكية واوروبية.
في السياق، أمام تصاعد العمليات العسكرية وتعاظمها كمًّا ونوعًا وبعد حربين صغرى (ياطر ١٩٩٣) وكبرى (نيسان ١٩٩٦) أسقطتا من يد “الكيان المؤقت” الحل العسكري بمواجهة الاستنزاف المتصاعد والذي تفرضه المقاومة، ورغم المناخ العام العربي والدولي الذي أنتج اختراقات في المفاوضات “العربية – الاسرائيلية” تمثلت باتفاق “اوسلو ” مع “منظمة التحرير” واتفاق “وادي عربة” مع الأردن، وسيادة الاتجاه نحو الاتفاقات المنفردة كان الرد الرسمي اللبناني والسوري بـ”وحدة المسار والمصير”، في مقابل الطرح “الاسرائيلي” لاتفاق منفرد مع لبنان. وهنا بدأت تظهر مواقف سافرة ومستترة تتناغم مع الطرح “الاسرائيلي” تحت عنوان الهيمنة السورية على القرار اللبناني وذهب بعضها إلى أبعد مدى بتوصيف الوجود العسكري السوري بالاحتلال.
وهنا استند “العدو الصهيوني” ومن خلفه أميركا والغرب الى مقولة أن لبنان ليس حرًّا ما اسس لاحقًا لإصدار القرار ١٥٥٩ عن مجلس الأمن.
ومع استمرار عمليات الاستنزاف وتصاعدها كان مشروع “جزين اولًا” الذي تصدرت “دولة الفاتيكان” الدعوة له وتبعتها فرنسا عبر عدة خطوط للترويج له، فكان النشاط الدبلوماسي يترافق مع خط موازٍ لنواب فرنسيين وأساتذة جامعيين أقاموا سلسلة من النشاطات في الجامعة اليسوعية والجامعة الأمريكية بجانب مجموعات تحت مسمى المجتمع المدني، استندت جميعها الى قوى سياسية خصوصًا في البيئة المسيحية وشخصيات ابرزهم سفير لبنان لدى واشنطن في عهد أمين الجميل سيمون كرم (من بلدة جزين) الذي فتح خطوطًا على شخصيات مثل حبيب صادق وآخرين في الجنوب والمناطق التي كانت توصف بالمناطق الوطنية.
واتسعت الحملة لتشمل إلى جانب البطريرك صفير “قرنة شهوان” ووليد جنبلاط وبعض القوى “اليسارية”، ولكل منها ادبياته الخاصة، لكن مع اختلاف تلك الأدبيات فإنها كانت تشكل فرقة موسيقية واحدة تعزف معزوفة واحدة لحنها وقادها الفرنسي بشكل مباشر وغير مباشر عبر رفيق الحريري، وتم تعميم مفهوم إمكانية إنجاز التحرير بالأساليب الديمقراطية والدبلوماسية. ونظمت لهذه الغاية سلسلة من النشاطات أدت إلى إنتاج حراك شبابي في الجامعات انطلاقًا من الجامعة اليسوعية ووصل الحراك الشبابي إلى الشريط الشائك في ارنون ونزعه تحت أنظار قوات الاحتلال مترافقًا مع صفقة “اسرائيلية”- فرنسية” أدت إلى الإفراج عن الأسيرة سهى بشارة، مع خطة لتصعيد الحراك الشبابي وصولًا إلى اقتحام منطقة جزين ويترافق مع انسحاب قوات الاحتلال منها بانتفاضة صورية يقوم بها عناصر أنطوان لحد ويتسلم الجيش اللبناني امن المنطقة بوضع خاص مؤداه تحييد جزين من خلال الكتيبة المتمركزة فيها وتعزيزها.
وكان السفير السابق سيمون كرم كشف هذا التوجه موحيًا بأنه كان بالاتفاق مع السلطة والقوى السياسية.
غير أن الرياح لم تجرِ كما تشتهي السفن، حيث نجحت المقاومة بتنفيذ عملية نوعية كبيرة استهدفت نائب قائد المنطقة الشمالية في “الكيان المؤقت” وقضى فيها، وهو كان المنسق والمشرف على تنفيذ المشروع، ما جعل العدو يقلب الطاولة وينسف المشروع برمته.
وها نحن اليوم أمام التكتيك عينه، أمام إدراك العدو الصهيوني أنه يستحيل عليه الاحتفاظ بأي بقعة من أرض لبنان ومياهه وثرواته تبرز جملة من المحاولات وعبر مشارب مختلفة لتقديم تنازلات تكتيكية تصب في مصلحة قوى عميلة تخدم استراتيجيته في الوصول إلى تطبيع العلاقات معه وقطع الطريق على المقاومة في استراتيجيتها الهادفة إلى التحرير الشامل. وخشيته من تسجيل إنجاز جديد للمقاومة يفتح الباب على طور جديد بتحرير مزارع شبعا والقرى السبع وإعادة وضع عودة اللاجئين الفلسطينيين على سطح الطاولة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.