تجدهم في كل ناحية وصوب، يتنقلون في الشوارع من جانبٍ الى آخر، يترصدون السيارات والمارة، يقتربون منك وفي أعينهم بريق من الحزن والرجاء، وتعبٌ أطاح بأحلامهم التي دُفنت قبل أن تولد.
مشهدٌ نراه في كلّ يوم، يعيش معنا كغيره من مشاهد الواقع المُرّة، بل هو في تأزم مستمر وانتشار أكبر وأشكالٍ أشد تعاسة وألمًا.
“عمالة الأطفال” تلك الظاهرة التي أصبحت من البديهيات في هذا الوطن، لا بد من أن تستحوذ على اهتمامٍ وبحث، في محاولة للفت النظر إليها وإيقاظ ما تبقى من شعور ومسؤولية في حكّام هذا الوطن.
واقع مأساوي ومشكلة تتعاظم
حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) العام الماضي من أن مستقبل الأطفال في لبنان على المحك؛ فقد ارتفع عدد الأسر التي أرسلت أطفالها إلى العمل من 9 إلى 12%، في حين أن 53% من الأسر لديها طفل واحد على الأقل فوّت وجبة طعام، كما أن ما بين 3 و10 أسر خفضت نفقات التعليم، وتتوقع ألا يعود نحو 440 ألفًا من الأطفال اللاجئين، و260 ألفًا من الأطفال اللبنانيين -الذين هم في سنّ الدراسة- إلى المدرسة.
أما فيما يتعلق بأجور الأطفال العاملين، فلا توجد بيانات كافية حولها، ولكن تظهر الدراسة التي أجرتها اليونيسيف عام 2021 أن أجور الأطفال لا تغطي احتياجاتهم الأساسية بمتوسط يومي بين 5 آلاف ليرة لبنانية (0.03 سنت) و15 ألفًا (0.57 سنت)؛ في حين تختلف أرباح الأطفال المنخرطين في عمل الشوارع اعتمادًا على العمر والجنس والموقع والموسم والعمل المنجز.
وكسائر دول العالم، أكثر من 50% من هؤلاء الأطفال يعملون بالزراعة، والبقية بالمتاجر أو يتسوّلون، أو يقومون بأعمال غير رسمية في المدن.
أما فيما يتعلق بجذور الأزمة فإن الواقع المعيشي الكارثي يتربّع في مقدمة الأسباب، حيث تأتي بعده ظاهرة التسرب المدرسي التي ترتبط بشكل وثيق بعمالة الأطفال، فقد أرسلت آلاف الأسر أطفالها للعمل بدل التعلّم، وأصبح الأخير مسألة ثانوية، وينتج عن ذلك مخاطر عديدة، أبرزها إهدار حقوق الطفل في الحياة الكريمة والتعلم، وتعرضه لشتى أشكال التنمر على شكله وبنيته وسلوكه، وللانتهاك؛ كالتحرش الجنسي واستغلاله ماديًا، وتشغيله ساعات طويلة من دون عطلات، وهدر طاقاته، بينما هو في مرحلة إعداد وتربية، بالإضافة الى أن الاحتكاك بمجال العمل -بغض النظر عن نوعه- يعرض الطفل لمعوقات في مسيرة حياته وتعثر نشأته لاحقًا، لأنه يمكن أن يكون بيئة جاهزة لانحراف الطفل.
الحلول موجودة ويد الدولة مشلولة
نصّ قانون العمل اللبناني في المادة ٢٢ أنه “يُحظر بصورة مطلقة استخدام الأحداث قبل اكمالهم سن الثالثة عشرة “. وحدد في الملحقين ١ و٢ الأعمال المحظور تعريض الأحداث لها. لكن مواد القانون لم تكن سوى حبرٍ على ورق، إذ إن نظرة الى واقع عمالة الأطفال في المجتمع اللبناني تدلّ بشكل واضح على ذلك.
من ناحية أخرى، فإن واقع الوزارات المعنية ليس أفضل حالًا من واقع البلد، ففي تصريحٍ صادر عن رئيسة وحدة مكافحة عمل الأطفال بوزارة العمل نزهة شليطة، تشير الى صعوبة التفتيش بسبب غياب التنظيم وضعف الإمكانيات ماديًّا وبشريًّا واجتماعيًّا، و يعود ذلك الى النقص الحاد في عدد المفتشين، حيث يوجد فقط 11 مفتشًا فنيًّا، وأقل من 20 مفتشًّا إداريًّا مع مساعدين، ولا يستطيعون تغطية كل القطاعات والمناطق اللبنانية، وأن معظم الأطفال العاملين لبنانيين ولاجئين يعملون في القطاعات غير المنظمة وفي أماكن غير مرئية.
أمام هذا الواقع المشتّت، لا بد من تحديد الأطراف المعنية في تحمّل المسؤولية، والتي تشمل أولًا وقبل كل شيء الدولة بمؤسساتها المعنية، الدولة المستقيلة منذ زمن من مهامها ومسؤولياتها، وتنسحب المسؤولية ثانيًا على الأسر وسعيها الى قلب الأدوار بين أفرادها ودفع الأطفال الى ترك الدراسة وتحمل مسؤولية أنفسهم وأهلهم، أضف الى ذلك دور المنظمات الحقوقية والإنسانية التي تكتفي أحيانًا كثيرة بإعداد التقارير والاحصاءات دون وجود مبادرات واجراءات تُتّخذ بهذا الشأن.
بلدنا قطارٌ ضاعت فيه الآمال، وسُحقت فيه الأحلام، وتلاشى فيه ما تبقى من فرص إصلاح ونهوض، واليوم تنضم إليه أحلام أطفال ما أبصرت النور بعد، وقلوبٌ لم تعرف نعمة الحياة وحقّ العيش الكريم سوى عن بُعد، وإن كانت عدالة الأرض ظالمةً، فإن عدالة السماء لا محال آتية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.