الكرة الأوكرانية الملتهبة في الملعب الأميركي

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

حبيب فوعاني* – خاص الناشر |

الصحافي، المستعرب الروسي القدير ميخائيل زيغار، الذي أسس قناة “دوجد” (وليس دوزد) التلفزيونية الروسية المعارضة اللدودة للكرملين في سنة 2010، وترأس تحريرها حتى سنة 2015، هو أول من ألف كتابا على الطريقة الأميركية عن سياسة فلاديمير بوتين، سماه “كل رجال الكرملين: تاريخ موجز لروسيا المعاصرة” (2000-2015)، والذي تضمن مقابلات سرية مهمة مع صانعي القرار السابقين واللاحقين الروس، ذلك إلى جانب كتب ونتاجات ثمينة أخرى.

أما في سنة 2006 فكان زيغار مراسلًا حربيًا لصحيفة “كوميرسانت” الروسية في لبنان، وكتب أن إسرائيل استهانت بعدوها “حزب الله”، فتكبدت الهزيمة. وهي شهادة جاءت من كاتب غربي الهوى ليس معروفًا عنه ولعه بأي شيء عربي.
ونحن الآن نعايش الحالة نفسها إزاء روسيا ما بعد السوفييتية، التي يستهين بها الغرب ويريد إبقاءها دولة إقليمية، كما صرح بذلك الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.

بيد أن بوتين منذ اعتلائه سدة السلطة في سنة 2000، وهو يحاول إفهام من يهمهم الأمر أنه هو وغالبية رجال السلطة الرئاسية الحالية جاؤوا من مدينة سانكت بطرسبورغ العريقة، التي بناها القيصر بطرس الأول لتكون نافذة على أوروبا، ولم يأت من الريف الروسي كأول وآخر رئيس للاتحاد السوفييتي الضعيف الشخصية ميخائيل غورباتشوف، وأول رئيس للاتحاد الروسي (وليس روسيا الاتحادية) الانتهازي بوريس يلتسين، اللذين هرولا إلى المباحثات مع الولايات المتحدة، واستسلما أمامها. وبذلك انتهت “الحرب الباردة” بتفكك الاتحاد السوفييتي في سنة 1991، ورأى العالم في انتهائها انتصارًا مدويًا للغرب الرأسمالي، وجرت إعادة ترتيب النظام العالمي على هوى بعض دول العالم.

على أن الاتحاد السوفييتي برأي بوتين قد تفكك بسبب الألغام التي زرعتها السلطة اللينينية “الثورية”، التي جاءت بعد “انقلاب أكتوبر” في سنة 1917 (كما سمى بوتين “الثورة البلشفية”)، وليس بسبب ضعف الاتحاد السوفييتي، كما يصر ساسة وكتبة غربيون على ذلك.

ولدى انتهاء “الحرب الباردة” بتفكك الاتحاد السوفياتي، وحل حلف وارسو العسكري، الذي كان يضم دول أوروبا الوسطى والشرقية الشيوعية، سنة 1991، لم تنشأ علاقات جديدة بين الدول، ولا سيما الأوروبية منها، ولم يتم حل حلف شمال الأطلسي، الذي لم تعد هناك من حاجة لوجوده.

ولقد دأب بوتين منذ سنة 2000 على التحذير من العواقب الوخيمة لهذا المسار الخطير، ودعا دومًا إلى مقاومته. ولم تكن مقاومته له سرًّا، لكن بعضًا لم يرها جدية رغم خطاب ميونيخ سنة 2007، الذي “تجرأ” فيه الرئيس الروسي على انتقاد سياسة الولايات المتحدة “لخطواتها الأحادية الجانب وغير الشرعية على المسرح الدولي”، وتفردها في قيادة العالم. ولم يأخذ الغربيون على محمل الجد تحرير القوات الروسية أيضًا بعد عام من ذلك في سنة 2008 لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من قبضة القوات الجورجية، التي غدرت بهما، وكذلك إعادة القرم إلى حضن الوطن الروسي الأم في سنة 2014.

واليوم، وعلى الرغم من التحذيرات الروسية المتواصلة من قبول أوكرانيا في قوام حلف الناتو، الذي سيهدد أمن روسيا، فإن المرافعات الغربية تواصلت عن حرية أي بلد في اتخاذ أي قرار، بما في ذلك الانضمام إلى الحلف، ولا شيء غير ذلك.

أما على الصعيد الروسي، فإن يوم 21 / 2 / 2022 سيبقى يومًا تاريخيًّا مشهودًا في تاريخ روسيا الحديث. فقد كان الاستعداد في هذا اليوم قائمًا على قدم وساق للاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وليس لغزو أوكرانيا، كما كان يؤكد المحللون “الاستراتيجيون” ليل نهار، وقد جرى الاعتراف بهما فعلًا، في حين كانت واشنطن تضرب أخماسًا في أسداس لمعرفة الطريق الذي ستسلكه القوات الروسية إلى العاصمة الأوكرانية كييف.

ويقول عارفون ببواطن الأمور هنا إن ألعوبة “الغزو الروسي” لأوكرانيا سربتها الاستخبارات الروسية لإلهاء العالم بها والسخرية من أصحاب القرار في الغرب، ومعرفة ردود فعله مسبقًا على الاعتراف بالجمهوريتين. وقد أحرزت اللعبة النجاح،
فقد جمع الرئيس الروسي أعضاء مجلس الأمن القومي الروسي في الكرملين، وأعربوا جميعًا عن ضرورة الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك، بل إن مدير مصلحة الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين طالب بالموافقة على انضمامهما إلى روسيا، طارحًا بذلك ورقة للمساومة المقبلة.

وإضافة إلى ورقة انضمام الجمهوريتين إلى روسيا، يجري الآن التلميح بقوة في دوائر موسكو العليا إلى إمكان العودة الروسية بزخم في المستقبل إلى حديقة أميركا الخلفية في أميركا اللاتينية.
ولذا فإن اللعبة لم تنته، والكرة الأوكرانية الملتهبة الآن هي في الملعب الأميركي.

ميخائيل زيغار في كتابه، الذي صدر في سنة 2020، وسماه “يمكنكم الانصراف” (Все свободны)، يعارض بوتين كما في أعماله الأخرى، لكن زيغار يعترف بأن مرحلة بوتين ليست كما قبلها. وقد آن الأوان لكي تعترف أميركا المترهلة بذلك، وتفكر بمصاير (وليس مصائر) الأبرياء الذين لا ذنب لهم في أوكرانيا.

*صحفي لبناني مقيم في موسكو

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد