مرة أخرى يتأكد أن معركة مارب ليست حدثًا يمنيًا محليًا، ولا إقليميًا محدودًا، بل إقليمي بتداعيات أوسع تعود ارتداداته من واشنطن، والأخيرة تظهر اهتمامًا ملفتًا، تزامن مع بداية المعركة ووصل ذروته خلال الأسابيع الماضية بعد تحرير 12 مديرية من أصل 14 تابعة لمحافظة مأرب.
حضرت واشنطن هذه المرة بالتفاصيل في الملف اليمني بعد أن كانت في موقع المشرف العام، ما عجزت عنه الرياض لصد تقدم الجيش واللجان الشعبية باتجاه مأرب تحاول الولايات المتحدة تحقيقه عبر مسارين عسكري وسياسي.
قبل أسابيع، لفت المسؤول السابق في الخارجية الأميركية ديفيد شينكر إلى خيارين أمام واشنطن للتعامل مع معركة مأرب، أولهما تكثيف الدعم لقوات هادي، والثاني التدخل الأميركي المباشر في الحرب. ومن الملفت أن شينكر كان متشائمًا من نجاح أي من الخيارين، واعتبر أن سقوط مأرب بات أمرًا وشيكًا، لذلك طالب باتخاذ خطوات جادة لمرحلة ما بعد السقوط، جوهرها محاصرة انتصار صنعاء.
في المسار العسكري، لا يبدو أن واشنطن في وارد التدخل المباشر برّيًّا، رغم عدم استبعاد مشاركتها في الجو، لذلك هي تسلك اتجاهات متعددة أولها تكثيف الدعم للسعودية، بعكس تصريحات بايدن التي زعم فيها قطع الدعم عن العمليات الهجومية، وقد انعكس ذلك تصعيدًا للغارات على العاصمة صنعاء بشكل لم تشهده منذ ثلاث سنوات تقريبًا. أما الجانب الآخر، فاعتمدت الولايات المتحدة على توظيف المرتزقة عبر فتح جبهات جديدة للتخفيف عن مأرب، وعلى أمل تحقيق اختراق ميداني في الساحل الغربي نحو محافظتي تعز وإب.
وما يثير قلق واشنطن أن نتيجة التصعيد العسكري غير مضمونة، وانعكاسات الفشل لن تكون محدودة، بعكس قوات الجيش واللجان الشعبية التي تتقدم بشكل ثابت وإن كان بطيئًا كما وصفه ديفيد شينكر. وهذا يعطيها أفضلية في إدارة المعركة استنادًا إلى أنها تخوضها على قاعدة النفس الطويل، بينما الطرف الآخر في سباق مع الزمن لتحقيق مكاسب عاجلة، لإعادة جزء من الروح المعنوية التي تتأثر بالهزائم وبإطالة أمد الحرب.
التصعيد العسكري تزامن مع حراك سياسي قاده المبعوث الأميركي تيم ليندركينغ الذي تحول من مبعوث للسلام إلى مبعوث للحرب، فقد التقى قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي التابع للإمارات، وكان لافتًا حديثه عن ضرورة التنسيق بين المكونات اليمنية المتنازعة لمواجهة “الاستفزازات الحوثية”. ومن الغريب أن تسقط الدبلوماسية الأميركية وتتناغم مع المفردات السعودية!
وقد جاءت هذه اللقاءات بعد أن فشلت الرياض في جمع أطراف المرتزقة نظرًا لحجم التناقض الكبير بينها، لناحية الأهداف والأولويات، ولانعدام الثقة بينها.
كذلك لجأت واشنطن مؤخرًا لتكثيف ضغوطها على صنعاء، ومنها إضافة قيادات جديدة إلى قائمة العقوبات، في مسار بدأ بالتصاعد منذ وصول جو بايدن إلى السلطة، علاوة على تفعيل ورقة الحصار والقرصنة تجاه سفن المشتقات النفطية.
التركيز على مأرب يأتي من مخاوف سقوط المشروع الأكبر الذي أسس لحماية المصالح الأميركية في اليمن، وهو مشروع الأقاليم، والذي هُيئ في ظل الحرب لاحتلال محافظات عدة، تتواجد واشنطن في بعضها، المهرة وحضرموت شرقًا، وربما في جزيرتي سقطرى وميون الاستراتيجيتين. كذلك فإن الثروة النفطية والغازية في مأرب تجعل من تحريرها لصالح صنعاء مكسبًا مهمًّا في ظل الحصار والحرب الاقتصادية، علاوة على أنها مثلت -عسكريًا- أكبر قاعدة اعتمد عليها العدوان لمحاولة احتلال صنعاء ومحافظات عدة.
ومن خلال هذه الأهمية فإن تحرير المحافظة سيفرض تداعيات واسعة، تمسّ بشكل مباشر مستقبل التواجد الأميركي والبريطاني، وبالتالي مشروعهما الذي يستند إلى السيطرة على باب المندب والسواحل اليمنية وصولًا إلى منابع الثروة.
لذلك فإن ما نلاحظه اليوم من وضوح في الموقف الأمريكي يعبر عن تلك الهواجس، وهي قديمة متجددة تنتقل من إدارة أميركية إلى أخرى. وعلى العكس من انخداع البعض بشعار السلام الذي أطلقه جو بايدن بعد تنصيبه، فإن اليمن واحد من الملفات التي تتطابق فيها مواقف الإدارات المتعاقبة عدا الاختلاف في الأساليب وبعض التفاصيل. ولعل الثوابت التي تتحرك وفقها تتمثل في ثلاثة أهداف:
الأول: منع صعود أنصارالله، بما تمثله من مشروع تحرري عابر للحدود.
الثاني: التصدي لاستقلال اليمن الكامل، بما يعني الاستفادة الكاملة من الثروات والجغرافيا الاستراتيجية، باعتبارها أسسًا متينة لدولة صاعدة في المنطقة.
الثالث: فصل اليمن عن محور المقاومة. وهذا يرتبط بالمخاوف الأميركية والإسرائيلية معًا، خاصة لناحية السيطرة على باب المندب.
والخلاصة أن معركة مأرب دخلت مرحلة جديدة يمكن وصفها بالفرصة الأخيرة بالنسبة لطرف العدوان، وعليه سيتم البناء على شكل المرحلة المقبلة في اليمن بشكل عام. وهنا يمكن أن نضع تقديراتنا، وهي لا تختلف عن تقديرات شينكر الذي رأى من خلال المعطيات أن الخيارات العسكرية لم تعد مجدية لمنع تحرير المحافظة. وليس هذا فحسب، بل إن الواقع اليمني بات ملائمًا لما بعد مأرب، وهو مندرج ضمن مسارين: استكمال عمليات التحرير نحو باقي المحافظات بالأسلوب العسكري أو الدخول في صفقات محلية لتجنيبها الحرب، مع إضافة أننا قد نشهد عمليات مؤثرة في العمق السعودي وربما الإماراتي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.