“حربًا حربًا حتى النصر زحفًا زحفًا نحو القدس”. لا زال صدى هذا الهتاف، ابن الثمانينيات، يرن في اذننا نحنا الذين عانقنا تلك الحقبة التي نتذكر، من الحين للآخر، نقاوة محتواها، الممزوج بعنفوان مرحلة الشباب. كنت من الذين يرددون وبصوت عال ذلك الهتاف الباعث للامل الملبي لتطلعات المتحمسين للقضية الاساس، فالهتاف مقدس على قدر الهدف.
في ذلك الحين وفي احدى جولات جهاد الحناجر، فجأة شيء ما دفعني الى التوقف عند ترتيب الكلمات، إن من ناحية الشكل المرتبط بالقواعد وإن من ناحية التسلسل المتعلق بالمعنى، فأخذت أتساءل: يا ترى ما هو التفسير العملي لهذه التراتبية في تركيبة الجملة؟ فغصت في اعماق التعقيد المفتعل لشباب المراهقة الفكرية، محاولًا ايجاد العقد الغيبية واعتماد قواعد البلاغة والنحو من خلال فلسفة ابسط الامور، والبحث عن الحلول، ليتم على ضوء الحاصل بناء شيء ما على مقتضى ما. يا ترى لماذا “حربًا حربًا حتى النصر” ومن ثم “زحفًا زحفًا نحو القدس”؟ أليس من البديهي ان يكون النصر نتيجة للحرب التي تحدث على وقع الزحف؟ ام ان الامرين متلازمان، ام ان هناك حكمة مخفية وراء هذا التسلسل لا يدركها ابتدائيو الثورة. وهكذا كنت أزهق بعضًا من الطاقة العقلية عالقًا في الظواهر بدل الالتفات الى المعاني الواضحة المبسطة والكافية من حيث المضمون.
ومرت السنون وتساقطت آلاف من الاوراق والطروحات الفكرية واهترأت اللافتات القماشية المثقوبة على وقع مصارعة الرياح، وبهتت الصور المعلقة في الساحات من اعتداءات الامطار وارتفاع درجات الحرارة، وتقطعت، بحكم القواعد الكيميائية وفيزياء الزمن، الشعارات المطبوعة على الجدران، فمنها ما تحول، بالنقص، الى شبه كلمات متقاطعة، ومنها ما تحول الى معانٍ مختلفة، بفعل تدخّل الايادي المخربة للمعادين، او الايادي العابثة للمراهقين.
والآن وبعد مضي اكثر من اربعة عقود، وبعد كل التطورات التي مرت علينا وعلى هتافنا المحبوب، بفعل تطور العلم وعوامل الطبيعة، وعلى ضوء كل ما حدث ويحدث في رحلة الجهاد والنضال على طريق القدس، من انكشاف الخونة وتجار القضايا، وعلى وقع موسيقى رصاص التحرير والصلاة باللباس العسكري، والافطار على صوت مدافع المقاومة، ومع عدم ازالة شكي والحصول على الجواب الشافي لسؤالي الذي بلغ من الكبر عتيًا، او تسريب معلومة موثقة من الأولين السابقين الذين تشرفوا بكتابة هذا الهتاف التاريخي، تبين لي ما اذا كانت الصياغة في شكلها الماضي والحالي، صياغة مقصودة ومدروسة ام ان الامور ابسط من ذلك بكثير، وعلى الرغم من عدم سماع اي جواب، لا زلت اتساءل، وبإصرار من يجيد تضييع الوقت، وعناد من يحب زهق خلايا العقل، يا ترى هل ان الزاحفين الزاحفين، كانوا قد جلسوا للتفكير طويلًا، اثناء وضع استراتيجيتهم وهندسة هتافهم، ليصلوا بعد ذلك الى هذا الترتيب المقصود، المكتوب بناءً على رؤية استراتيجية وتقنية ما، ام ان الامر بالفعل ابسط من ذلك؟ الجواب قد يكون هذا او ذاك وقد لا يكون هناك، في الاساس، جواب عن سؤال لم يطرح قط من قبل كبار العقول. ومن الممكن ان مثل هذا التعقيد لم يخطر على بال احد ولم يكن له حيّز قط في خلايا الرؤوس الباردة التي وضعت وتضع استراتيجيات بحجم امة، وخطط تتعلق بالقضايا المصيرية.
وبين هذا التفكير وذاك، حضر في ذهني واحد من اكبر وابلغ الشعارات، المفيدة في وقت الحيرة وفي حال التردد، الشعار الذي يحسم جدلية الاختيار ويُخرج من تيه الضياع والتشتت الى طريق الوعي والسلامة، جواب لكل غارق في دوامة الفكر المحدود، فها هي افكاري تحط رحالها في مضارب كربلاء، ويتردد على سمعي نداء علي الاكبر “لا نبالي اوقعنا على الموت او وقع الموت علينا”؛ فالحق هو المعيار والنتيجة هي الفيصل، فمن يكترث، اذًا، للشكل؟ ومن يهتم اذا كان الهتاف حربًا نصرًا زحفًا او زحفًا حربًا نصرًا، فالمهم في القضية المضمون لا الشكل، والمحتوى لا القشور. لا يهمنا اذا كان واضع الاستراتيجية هو نفسه الذي وضع شعاراتها، فلا يقلل من قيمة الشعار ترتيب كلماته، ما دامت كلها تخدم الهدف المرسوم. لكن لكي نكون منصفين مع من اضاع عمرًا في البحث عن جواب شافٍ لتعقيد مفترض، علينا ان نعترف بأن هناك شيئًا من المنطق في ما فكر فيه، وبأن الهتاف الميمون عن قصدٍ او عن غير قصد، واذا تأملنا واقع المواجهة، منذ البداية حتى الان، اثبت أن الزحف نحو القدس بغية تحريرها، تنتظره صعوبات جمة وفي طريقه الكثير من المعارك والحروب، حرب تليها حرب، و نصر يليه نصر، لتكون النتيجة النهائية، وعلى وقع الزحف المليوني، تسبيحًا لله الذي اسرى بعبده ليلًا من مسجده الحرام الى مسجده الاقصى، فتعم، بفضل دماء الشهداء، من حوله البركات وتقام الصلوات فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.