تحقيق | جعجع وهزائمه

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

رغم السمعة العالية التي يتمتع بها سمير جعجع في الإعلام باعتباره قائدًا عسكريًا بامتياز، إلا أن مسيرته العسكرية كانت متخمة بالهزائم في الميدان، ففي عام 1976 شهد أولى هزائمه حين كان قائدًا لمجموعة قواتية كُلّفت باحتلال سرايا أميون الحكومي. وفي شباط 1980 وبعدما أصبح قائدًا عامًا للقوات اللبنانية في الشمال، قاد جعجع بنفسه معركة في بلدة قنات في قضاء بشري ضد القوات السورية وتعرّض لهزيمة كبيرة. ويدعي أنصاره زورًا أنه هزم لأن السوريين قاتلوا مدعومين بالطوافات والدبابات، إلا أن هذا الادّعاء يُنسف سريعًا عند أول زيارة للأرشيف.

الهزيمة الثالثة كانت بعد انسحاب إسرائيل من الجبل عام 1983 حيث هرع جعجع وعناصره لملء الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الإسرائيلي ومواجهة أبناء المنطقة، فكانت حرب الجبل، وفيها تعرّض جعجع وأنصاره لهزيمة ساحقة تلاها دخول مقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، مقر جعجع في بلدة دير القمر المسيحية، وفراره عن طريق البحر إلى جونية.

هزيمته في الجبل بعد أن استدعي للإنقاذ عزّزت الشرخ بينه وبين آل الجميل، فقد اعتبر جعجع أن الهزيمة مسؤولية القيادة المرتبكة لحزب الكتائب، ودافع عن موقفه بالقول إنه استطاع إعادة تنظيم الحالة العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، لكن موازين القوى الدولية والاقليمية والسلاح السوفيتي وفلسطينيي أبو موسى وأحمد جبريل والحياد الإسرائيلي، عوامل كانت أقوى من تنظيمه وإرادة مقاتليه، خاصة وأن تلك العناصر ترافقت مع ارتباك ولا مبالاة القيادة السياسية المسيحية التي تأخّرت في إرسال الجيش الى الجبل واستلام الأرض من الإسرائيليين المنسحبين، علمًا أن وثائق تلك الفترة الزمنية تؤكد أن القوات اللبنانية لم تسمح للجيش بالانتشار في تلك المناطق بعد انسحاب الاسرائيليين وأن مهمتها كانت توجيه ضربة قاسية للدروز في الجبل .

وفي أدبيات أنصاره أنه “بين بحمدون المحترقة ودير القمر، عادت صور الماضي ومحطات 1840 و1860 إلى ذهن جعجع المنسحب مع رفاقه. فيوسف بك كرم الشمالي فشل للمرة الثانية في إنقاذ مسيحيي الجبل. ويضعون أصل الداء على الداخل أي المجتمع المسيحي”.

على رغم أن الفوضى وانتفاء الرؤية الإستراتيجية وعدم القدرة على اتخاذ قرار كان سببه مشاريع القوات اللبنانية الانتحارية التي قادها بداية بشير الجميل وتلاه سمير جعجع قائد جبهة الشمال في القوات اللبنانية بين عامي 1979 ـ 1984.

الهزيمة الأولى: أميون
1 حزيران 1976 الهزيمة الأولى لسمير جعجع ابن الـ24 عامًا كقائد مجموعة حيث شاركت مجموعته في هجوم شنّته القوات اللبنانية الجناح العسكري لحزب الكتائب في ذلك الوقت على الكورة وشكا، وكانت المرحلة الأولى من الهجوم التي شاركت فيها عدة مجموعات وعلى رأسها مجموعة سمير جعجع، التي كانت مكلّفة بالسيطرة على سراي أميون. لم تتمكّن مجموعة جعجع من الاقتراب من السراي وكان ذلك مصير كل الهجوم الذي فشل فشلًا ذريعًا في أقل من 4 ساعات، مما اضطر جميع المجموعات القواتية للانسحاب، وكانت مجموعة سمير جعجع أولى المجموعات المنسحبة حاملة قتيلاً أصيب برأسه في مكان لا يبعد امتارًا عن سمير جعجع. وينقل أحد رفاق سمير جعجع في مذكراته عن الحرب الأهلية هذه المعركة فيقول: “كانت تلك أوّل مواجهة لسمير مع الموت في ساحة معركة. وكانت تجربة في غاية القسوة، حتّى لطالب في الطبّ. مع حلول المساء، حمل المقاتلون الجثث الممدّدة على الأرض ووضعوها جانبًا، وجلسوا حول بئر منهكين، محبطين وجائعين، ينتظرون المساعدة والطعام اللذين طالبوا بهما مرارًا باللاسلكي. كان الشبّان يسترقون النظر بطرف أعينهم إلى البئر من دون أن يجرؤوا على الاقتراب منها، بعدما رأوا أحد الرفاق يلقي فيها جثّة لم يكن يقوى على حملها. لكنّ العطش كان أقوى من كلّ الاعتبارات، فشرب سمير كما رفاقه من مياه البئر الملوّثة، وهو يتساءل بأيّ سخرية من القدر وصل الأمر بطالب في الطبّ إلى مثل هذا الوضع المزري”.

الهزيمة الثانية: قنات
تقع بلدة قنات في قضاء بشري، وكانت البلدة بعهدة الجيش السوري، إلا أن العام 1980 حمل للبلدة الوادعة في أعالي جرود بشري رياحاً سيئة، فقد تم اختيارها لتكون أحد عناصر المشروع الذي أعدّه الإسرائيليون ونفّذته القوات اللبنانية كمقدمة لاجتياحهم الكبيرعام 1982، وتضمن ذلك المشروع “طرد القوات السورية” واحتلال بلدات ومدن حساسة في أعالي بشري وفي غربي البقاع الأوسط، وذلك لتأمين سلسلة الجبال الغربية الممتدة من جبل صنين جنوبًا وصولًا إلى زحلة وضرب الوجود السوري غرب هذا الخط والمتداخل مع مناطق سيطرة القوات اللبنانية. وقد بدأت القوات اللبنانية بتنفيذ هذا المخطط في مدينة زحلة بداية العام 1980.

كان لبلدة قنات أهمية استراتيجية فهي في منطقة فارغة من السكان تقريبًا، يحدّها عدد كبير من المزارع وتتحكّم بعقدة طرق تصل إلى إهدن وبشري وحدث الجبة وحاريصا شرقًا، وتمتد غربًا وجنوبًا إلى تنورين وشمالًا باتجاه ساحل شكا.

مسار المعركة
٥ شباط: بعد صدور قرار التحرّش بالقوات السورية في البلدة حصل احتكاك مفتعل في ساحة بلدة قنات في الشمال بين مقاتلين كتائبيين ودورية سورية، فصدر الأمر للدورية بعدم الرد وترك المنطقة، وفي غضون ساعتين أرسل سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية العسكرية في الشمال، تعزيزات من ثكنة القطارة التي كان يتخذها مقرًا له، قوة من مقاتليه بقيادة حنا عتيق وريشار نجاريان، اللذين أعدّا غرفة عمليات تولّت بأمر من جعجع التواصل مع العمليات المركزية في نيحا بإشراف فؤاد أبي ناضر، يعاونه إيلي أبي عكر، الملقّب بـ”كيسو”. لاحظت القوات السورية أن وضعًا عسكريًا بدأ يتحضر في بلدة قنات مشابهًا للوضع الذي بدأ يتشكل في زحلة وجبل صنين قبل اسابيع فطلبت من قواتها تجنب الاحتكاك المباشر لأي فرد في قنات والمزارع المحيطة لعدم إعطاء القواتيين أية ذريعة، لافتعال معركة يسعون إلى إشعالها.

٦ شباط: القائد العام للمردة روبير فرنجية، يطلب من القيادة السورية في الشمال، أن تقوم المردة بإقامة حاجز على مدخل قنات لمراقبة الدخول منها إلى المنطقة، ولمنع تسرّب المسلحين من جرد البترون إلى الشمال، كما قال.

٨ شباط: ظهور عناصر من المردة بثياب مدنية على كافة الحواجز السورية من كوسبا وصولًا إلى حدث الجبة، وبلّغ سمير جعجع بالمستجدات فأرسل تعزيزات إضافية ورفع الجهوزية في كل المنطقة وطلب تشكيل قوة يترأسها بنفسه لتتحرك فور إصدار الأمر.

٩ شباط: بدأ التوتر الشديد يلف منطقة جبة بشري الوسطى والطرقات المؤدية إليها، فتواصل الملازم واصف حلوة قائد القوة السورية المنتشرة بقنات وبادر للاجتماع بكاهن البلدة فؤاد بربور ومختارها يعقوب فرنسيس، وأبلغهما بالإجراءات التي تقوم بها القيادة السورية في الشمال لمنع الاحتكاك بين الجيش السوري والأهالي، وكشف لهم أن حواجز المردة المنصوبة في المنطقة هدفها منع الاحتكاك من جهة ومنع تسلّل مسلّحين غرباء إلى الشمال أو إلى البقاع.

نهار الثلاثاء 12 شباط 1980: على إثر اقتراب دورية سورية بشكل روتيني من مداخل البلدة قامت إحدى المجموعات القواتية التي أرسلها جعجع والمنتشرة في أطراف قنات ومن دون إنذار باستهداف ناقلة جند سورية، فأعطبتها، ما أدّى إلى مقتل أربعة جنود من ركابها وجرح الباقين. وفور استهداف الملالة فتحت المجموعات القواتية المنتشرة في البلدة والمزارع النار على التجمّعات والمراكز السورية من دون سبب مبرّر. نتيجة لذلك وبعد قراءة سريعة للوضع وجّهت القيادة السورية في الشمال إنذارًا لمدة 24 ساعة للمسلّحين القواتيين الذين حضروا من ثكنة القطارة ومن ثكنة نيحا إلى بلدة قنات والجوار. إلا أن سمير جعجع استمر بزج قواته في البلدة والمزارع طيلة يومي الثلاثاء والاربعاء 12 و13 شباط 1980.

يوم الخميس 14 شباط 1980: في تمام الخامسة والنصف فجرًا، قامت مجموعة من الوحدات الخاصة السورية بالتسلّل باتجاه المدرسة التي تقع شرق البلدة واشتبكت مع المجموعة القواتية التي كانت منتشرة فيها بقيادة ريشار نجاريان، وتمكّنت من السيطرة على المدرسة ومحيطها، وقتل نجاريان، ولم تتمكن مجموعة حنا عتيق التي أرسلها سمير جعجع على عجل، دعم مجموعة المدرسة أو صد الهجوم. جلّ ما قامت به هو سحب جثث نجاريان ومجموعة من عناصره والانسحاب بهم إلى ساحة البلدة، فيما أكملت قوة سورية أخرى عملية هجومية متزامنة في محيط بلدة قنات سيطرت فيها على عدد من المزارع، واستعدّت القوتان لهجوم نهائي في اليوم التالي.

مع حلول منتصف ليل الخميس- الجمعة 15 شباط 1980، توجه سمير جعجع مع تعزيزات إضافية انتشرت في منطقتي الساحة ودير مار مخائيل في وسط بلدة قنات. كما وصلت أيضًا تعزيزات من كسروان بقيادة رزوق شليطا.

في الساعة الثالثة من فجر يوم السبت 16 شباط 1980 سقطت كل المزارع المحيطة بقنات بأيدي الوحدات الخاصة السورية. عند الساعة السادسة مساءً شنّت قوة بقيادة سمير جعجع هجومًا مضادًا على مزرعة بني صعب، إلا أنها لم تتمكن من استعادة المزرعة وتكبّدت حتى فجر يوم الأحد 17 شباط 1980، 8 قتلى وعددًا كبيرًا من الجرحى، عندها أصدر جعجع أمرًا بانسحاب جميع المقاتلين من بلدة قنات والجوار عند الساعة الخامسة فجرًا إلى خط نيحا – بيت كساب – حردين، وخلال عملية الانسحاب قُتل أحد مسؤولي مجموعات المغاوير التابعة للقوات اللبنانية، ميشال حداد.

تكبّدت القوات اللبنانية في معركة قنات 15 قتيلًا، وعددًا كبيرًا من الجرحى، وهي تحيي ذكرى هذه المعركة كل عام على أنها معركة أسطورية يرويها عدد كبير من الشهود بتناقض كبير في سرد الوقائع، ولكن مع إظهار زعيمهم آنذاك بشيء من الأسطرة الهوليودية.

الهزيمة الثالثة: الجبل والشوف
توالت مغامرات جعجع العسكرية حيث قاد القوات اللبنانية في حربها ضد مناطق الجبل الدرزية وقوات الحزب التقدمي الاشتراكي، والتي انتهت بخسارة القوات والتفاوض على انسحاب جعجع مع مجموعة من مسلحيه إلى ساحل الشوف، حيث انتقل بعدها بحرًا إلى المنطقة الشرقية.

في 16/10/1983: عُيّن سمير جعجع قائدًا للجبل بعد تدهور وضع المسيحيين فيه، في محاولة من القيادة، على ما ادّعت، لإعادة تجسيد التاريخ حيث كان موارنة الشمال ينجدون أشقّاءهم في الجبل والبقاع.

حاول سمير جعجع ترتيب الوضع العسكري والمعيشي للمسيحيين في الجبل، إلا أنه فشل فشلًا ذريعًا، حيث كان من المفترض أن يصمد 24 ساعة ريثما يصعد الجيش اللبناني إلى المنطقة، إلا أنه فضّل الفرار بعد أقل من 10 ساعات بحجة أن “البشر أهم من الحجر”، فأمر بالانسحاب وقاد المدنيين والمقاتلين المسيحيين إلى بلدة دير القمر بحجة تجنب المجازر، موحيًا بأنه يكرر التاريخ نفسه كما في 1860، ولكن هذه المرّة لم يذبح الدروز ضحاياهم في دير القمر.

استمر حصار دير القمر 98 يومًا، وأجلي جعجع في بدايته في اتجاه بيروت بدعوة من القيادة، كما قيل، حيث برزت مشكلة جديدة تمثّلت بتحميله وشريكه إيلي حبيقة، كل المسؤولية عن إسقاط الجبل والشحار والفرار دون تأمين إجلاء المسيحيين من هناك.

يوثق الرئيس اللبناني الكتائبي أمين الجميل، آنذاك، أحداث تلك الفترة في مذكّراته بفصل من الكتاب تحت عنوان “وليد جنبلاط يخطّ الإمارة الدرزية”، فيكتب ما يلي: “أما الأقسى في ذلك كله، فهو التجنّي الذي واجهتُه من الأقربين أيضًا. إذ من أجل تبرير تورّط القوات اللبنانية في منطقة بحمدون وضواحيها، حيث دخلت إليها عسكريًا بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منها ومن دون تحضير من أي نوع ولقيت مواجهة شرسة من مجموعات عسكرية أرسلتها سوريا إلى المنطقة بعتادها وسلاحها، اضطرت إلى الانسحاب متكبّدة خسائر جسيمة، كما من أجل تبرير تخلّف إسرائيل عن تقديم أي دعم للقوات اللبنانية رغم التحالف الذي يجمع في ما بينهما، انطلقت إشاعات مغرضة مبرمجة وخبيثة تضع مسؤولية الكارثة على عاتق رئيس الجمهورية على أنه قصّر في مناصرة القوات اللبنانية ودعمها في مغامرتها هذه، أي توريط للجيش اللبناني في هذه الحرب من دون جهوزية، وهو منشغل بمعارك ضارية حول العاصمة، نتائجها انتحارية وكارثية له وللحكم الذي يُعوّل عليه، لا سيّما وأن كلا المخابرات والجيش الإسرائيلي كانا على تنسيق كامل مع قوات جنبلاط ودروز المنطقة، الحلفاء الجدد لإسرائيل. مع الإشارة إلى المخطط الإسرائيلي لتسهيل تحقيق الكانتون الدرزي في الجبل، منطقة بحمدون وصوفر جزء أساسي منه. راحت الإشاعات المغرضة والخبيثة، التي راجت بكثافة، تعزو عدم دعمي القوات اللبنانية إلى رغبتي في التخلّص منها، بغية النيل من سمعتي ومعنويات الجيش. أمام المشهد الدرامي الذي كانت تنطوي عليه أحداث الجبل، المتمثّل بهذا التهجير السكاني، وهذه المجازر والفظاعات بأنواعها المختلفة، المرتكبة بتواطؤ من البعض وبعدم اكتراث من البعض الآخر، اتخذتُ قراراً حاسماً صعباً جدًا”.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد