في ذكرى مجزرة “صبرا وشاتيلا” كانت العودة إلى مصادر أوردت اعترافات القتَلة المشاركين بالمذبحة تشبه جولة في أرض المخيّم المذبوح على وقع أصوات المجرمين وكلماتهم التي نادرًا ما أظهرت الندامة بقدر ما اشتكت من كوابيس أصحابها، إذ بقيت جريمتهم تلاحقهم في أحلامهم وفي تفاصيل أيامهم. يُخيّل للمرء أنّهم يمتلكون ما يكفي من الوقاحة كي يلوموا الشهداء لأنّهم كقتَلة لم يستطيعوا استعادة حياتهم النفسية الطبيعية. بعضهم يسرد مبرّراته البشعة ببشاعة ما ارتكب، بعضهم يحاول التنصل من المسؤولية، بعضهم يمتلك من التباهي بالجرم ما يكفي لسحب اسمه من أيّ تصنيف بشري، وجميعهم يتحدثون عن صبرا وشاتيلا وكأنها كانت مهمتهم التي وجب أن يرتكبوها.
كثير من الأفلام والتسجيلات والمشاريع الوثائقية تناولت مجزرة صبرا وشاتيلا، ليس كمذبحة قضى خلالها مدنيون عزّل، بل أيضًا كحدث وصم جبين الكثيرين بعار لا يُمحى، وإن أعطي هؤلاء هامشًا للتحدث عمّا فعلوا، سواء بهدف الإدلاء بمعلومات توثيقية أو بهدف تفريغ ذاكرتهم التي لا بدّ يرهقها ثقل المشاهد التي تحتفظ بها عمّا فعل حاملوها.
“مجزرة”* هو واحد من أفلام وثّقت ما حدث بلسان المرتكبين الذين نفّذوا المذبحة في صبرا وشاتيلا. يتحدثون خلاله بوجوه مموّهة، عن المجزرة كتجربة مرّت بحياتهم، ما يعطي حديثهم بعدًا يعادل القتل إيلامًا. فهؤلاء لم يخضعوا لمحاكمة، لم يُعاقَبوا في قضاء أو محكمة، لم يجبرهم أحد على دفع ثمن ما ارتكبوه. فتجدهم، حتى وإن بدا على أحد منهم بعض الندم، أقرب إلى المباهاة بما فعلوا، ما يجعل الغضب الذي تولّده المجزرة في القلوب مضاعفًا.
يفتتح أحدهم حديثه واصفًا بيده شكل “الجورة” التي رُميت الجثث داخلها. يقول إنّهم كانوا يجمعون الشبّان العزّل ضمن مجموعات، يطلقون عليهم النار الواحد تلو الآخر، ويجبرونهم على دفع جثث السابقين إلى “الجورة”، حيث سيلتحقون بهم بعد قليل. يقول، بصوت لم يرتجف، إن الشعار كان “الكبير والصغير والمقمّط بالسرير”، في إشارة إلى نية القتل دون أيّ استثناءات.
وهذا ما أكده كافّة المتحدثين، حتى ذلك الذي بدا سعيدًا بما يخبر المشاهدين به “كانت أيّامًا حلوة وخطرة”. نعم يقولها ويمتلك ما يكفي من البشاعة كي لا يحاول إخفاء نشوته بقتل الفلسطينيين!
يتحدثون عن حالات الاغتصاب التي ارتكبوها، عن كبار السنّ الذين ذبحوهم، عن الأطفال الذين قتلوهم “كي لا يكبروا ويحاربونا” (والـ”نا” هنا تعود حكمًا إلى الصهاينة)، وعن النساء اللواتي قُتلن ذبحًا ورميًا بالرصاص وخنقًا وتقطيعًا كي لا يلدن فيما بعد “أطفالًا فلسطينيين”!
من بينهم من كتب “حكايته” عن المجزرة. مارون مشعلاني الذي عاش جحيمًا بعد الحرب، فهرب نحو الاعتراف، وكأن مجرّد الإقرار بالذنب يكفي كي يولد المرء من جديد خاليًا من الخطايا، من دون أن يظهر أدنى اعتبار لمن مضوا بأبشع الوسائل على يده.
أما “كوبرا” الذي كتب المجزرة في كتاب ركيك هو “كوبرا في ظلّ حبيقة”، فقد ذكر تفاصيل مروّعة وصادمة حول ليالي المجزرة. وكذلك تحدّثت معظم الوثائقيات حتى الصادرة عن الصهاينة عن المذبحة بتفاصيلها، وإن حاولت التنصل من المسؤولية عنها وكأنها مجرّد مبادرة فردية قام بها الكتائبيون بدون عودة إلى مرجعيتهم الصهيونية.
يتحدثون كمرتكبين لم يندموا حقًا وإن اضطروا إلى الإقرار بما فعلوا. هم يعترفون ليس بحثًا عن تحرّر من تأنيب الضمير، فلا ضمير فيهم كي يؤنّبهم أصلًا، ولكن لكلّ منهم دوافعه التي تجعله يروي ما في ذاكرته من مشاهد وأصوات متعلقة بالمجزرة، وقد يبلغ الأمر ببعضهم حدّ الحديث عنها “كإنجاز” نجحوا في تحقيقه!
صور المجزرة ما زالت حاضرة، لا تغيب عن الذهن وتظهر كترجمة صورية فورية يقوم بها الدماغ حالما يسمع كلمة “صبرا وشاتيلا”، ويصحبها شعور بالقهر وبالغضب، شعور يزداد عمقًا وإيلامًا مع الخوض في قراءة أو سماع المجرمين وهم يحدّثون عمّا فعلوا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.