وكأن لم يكفِ الشعب الفلسطيني كلّ ما لحق به من مجازر واعتداءات وتهجير وسلب لأرضه ووطنه وعدوان على ممتلكاته وحُرمة منازله من عدوّ غاشم صهيوني، فوجد في الأرض التي هُجر إليها مجازر جديدة بانتظاره، مجازر طالت الشيخ الكبير والطفل الصغير، من عدوّ في الداخل اللبناني، يعمل لمصلحة “اسرائيل” بل لا يختلف عنها بشيء سوى العرق رغم أنه أحد أذيالها وأيديها هنا.
عاش الفلسطينيون ساعات ظنّوا أنّها تحدث فقط في فلسطين. عاشوا خلف حدود أرضهم نكبة تدعى “صبرا وشاتيلا”، وقد خلّفت هذه المجزرة وراءها الكثير من الضحايا، فاستشهد ما يقارب الـ ٣٥٠٠ شهيد، وبقي الآخرون مكتومي الأوجاع، يعيشون في بؤرة من الحزن والفقد، لم يعطها القانون الدولي ولا منظمات حقوق الإنسان أي اهتمام، فهم ليسوا قطّة حُرمت من وجبتها الأساسية أو رُميت على الطريق ليلًا ليشعلوا من أجلها المحاكم والمظاهرات والاستنكارات المحلية والدولية.
يروي الناجون من تلك المجزرة ما حصل معهم، فأم خالد (اسم مستعار لإحدى الناجيات) الأم لثلاثة أولاد، عادت إلى المخيم لتجد أولادها ملقين على أرض حمراء تملؤها الدماء، حيث لم يبقَ من فلذات أكبادها سوى بعض القطع والأشلاء مفقودة البصمات. أما الحاج محمد فلم يتحمّل فقدان ابنته اغتصابًا، تلك التي أنجبها بعد عناء وربّاها “كل شبر بنذر” كما يقول اللبنانيون، فعاش بعدها وحيدًا، ميّتًا بروحٍ حيّة يملؤها الخذلان والوجع. هُدّمت البيوت التي لا تسمى بيوتًا أصلًا، فهؤلاء كانوا ينتظرون عودتهم إلى بلادهم في بيوت مؤقتة أسقفها الزينك وبعض حيطان الورق لأنهم موقنون بعودتهم إلى بيوتهم العزيزة يومًا.
تروي ميلانة بطرس، صاحب الصورة الشهيرة في المجزرة، بيدها الضاربة فيها على رأسها حزنًا وندبًا، أنهم وفي حين كانوا يختبئون في أحد الملاجئ، اجتاحهم مجرمو الكتائب، مفرّقين النساء والرجال كلًّا على حدة ثم أخرجوا النساء. وبعد مرور يوم، عادت أم حسين (ميلانة بطرس) لترى ما حلّ بعائلتها، فوجدت ابنها وزوجها مع خمسين نفرٍا من جيرانها، على الأرض، موافين منيّتهم على يدي أمراء الحرب والتصهين.
لم ينسَ أحد من الفلسطينيين ما حلّ بهم يومها، وكذلك اللبنانيين، ففي كل بيت صورة لشهيد أو أكثر.
تقبع هذه المجزرة بذاكرتنا، بنهارها الأسود المليء بالدماء وليلها المُضيء بنيران الصهاينة والقوات، في ذاكرتنا جميعًا، وتترك فينا ندبًا تشبه بوَقعها ندبة اغتصاب فلسطين وسلب القدس وحدوث النكبة والنكسة؛ فالصهيوني الذي ارتكبها واحد، لكنّه يتخذ أشكالا مختلفة، ومنها ميليشيات نُسبت إلى لبنان ومارست دور الوكيل بأعمال الصهاينة فيه.
“صبرا وشاتيلا” محطة من أوجاع، لا تُنسى، ولا تُمحى وتبقى نزيفًا في كل قلب مرّ بها، أو سمع عنها.. هي ذاكرة لا تفارق الأحياء كلّهم، ولا سيّما الناجين منها.. هي حكاية الدم الناطق دائمًا وأبدًا بهول المجزرة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.