بين منطق الأمن ومنطق النفوذ: لماذا يتباعد الموقفان الأميركي والإسرائيلي؟

21

منذ اندلاع مواجهة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، برز تباين واضح بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي تجاه الحرب على غزة، سواء في الأهداف العسكرية، أو في التصورات السياسية لمرحلة ما بعد الحرب. ورغم وحدة الخطاب العلني الداعم للكيان المؤقت، إلا أن الاختلافات في العمق الاستراتيجي وفي فهم البيئة الإقليمية والضغوط الداخلية، كشفت عن شرخ متنامٍ بين الطرفين.

اختلاف في الأهداف والوسائل
يرى العدو الإسرائيلي في الحرب معركة وجودية هدفها إنهاء حكم حماس في غزة، واستعادة الرهائن، وإعادة بناء الردع الذي تضرّر بعد عملية 7 أكتوبر. هذا المنطق قائم على فكرة “الأمن أولًا”، أي أن تحقيق أي تسوية سياسية لا يمكن أن يتم قبل سحق التهديد العسكري.

أما واشنطن، فرغم دعمها المبدئي لتل أبيب، إلا أنها تضع أولويات مختلفة: الحد من التصعيد الإقليمي، تفادي وقوع مجازر مدنية تُحرجها دوليًا، وتجنّب انهيار النظام الإنساني في غزة الذي قد يُشعل المنطقة ويضعف صورتها العالمية. لذا تحاول الإدارة الأميركية موازنة دعمها العسكري للكيان المؤقت مع ضغوط متزايدة لضبط العمليات والبحث عن “اليوم التالي”.

وفي هذا السياق، يبرز التباين أكثر بين الطرفين بشكل واضح، فالولايات المتحدة تدفع نحو صيغة تُفضي إلى تهدئة مستدامة تسمح بعودة إدارة فلسطينية أو دولية قادرة على إعادة تشغيل المؤسسات والخدمات، وتربط إعادة الإعمار بمسار سياسي يضمن قدرًا من الاستقرار طويل الأمد. في المقابل، تصرّ حكومة الاحتلال على مقاربة أمنية، تُبقي غزة في حالة سيطرة عسكرية مفتوحة دون تمكين أي جسم فلسطيني موحّد أو مستقل، وترفض منح أي التزامات سياسية لما بعد الحرب.

الفجوة في الرأي العام
في الولايات المتحدة، أظهرت بعض استطلاعات الرأي تراجعًا حادًا في التأييد الشعبي للكيان المؤقت مع طول أمد الحرب، خصوصًا بين الشباب واليسار الديمقراطي، حيث ارتفعت نسبة من يرون أن العدو الصهيوني “تجاوز الحد” في استخدامه للقوة. هذه التحولات أحرجت الإدارة الأميركية ودفعتها لاتخاذ مواقف أكثر حذرًا.

في المقابل، ظل الرأي العام الإسرائيلي متمسكًا بخيار الحرب باعتبارها ردًا استراتيجيًا ضروريًا، رغم تصاعد أصوات داخلية تساءلت عن جدوى استمرار القتال في ظل خسائر المدنيين والضغط الدولي المتزايد.

خلاف داخل النخب وصناع القرار
تتجلّى الفوارق أيضًا في طريقة إدارة الصراع، واشنطن تدفع نحو حل سياسي تشارك فيه السلطة الفلسطينية أو كيان إداري مدني تحت رقابة دولية، بينما ترفض تل أبيب أي وجود للسلطة الفلسطينية في غزة وتُفضّل بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية لفترة انتقالية. هذا الخلاف جعل المفاوضات حول “اليوم التالي لغزة” بطيئة ومليئة بالتوجس المتبادل.

تشير تقارير مراكز الأبحاث الغربية في الآونة الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة تميل نحو “إدارة الأزمات” وليس “حسمها”، بينما الكيان المؤقت يصوّر نفسه في معركة وجود. الدراسات تحذر من أن استمرار العمليات العسكرية دون رؤية سياسية سيُولّد بيئة خصبة للتطرف، في حين ترى التحليلات الإسرائيلية أن أي وقف للنار سيُعدّ انتصارًا معنويًا لحماس ويُضعف الردع على المدى البعيد.

جذور الخلاف: بين منطق الأمن ومنطق النفوذ
يشعر العدو الإسرائيلي بعد عملية 7 أكتوبر بتهديد وجودي مباشر بعد اختراق أمني كبير (هجوم/اختطاف)، لذا تهيمن على قراراته منطقيات الأمن القصوى. إلا أن الولايات المتحدة ترى المسألة من منظور اهتماماتها الرئاسية فتحاول أن توازن بين دعم حليف استراتيجي وكبح توترات إقليمية تؤثر على مصالحها، إضافة إلى حساسية الداخل الأميركي تجاه الأبعاد الإنسانية.

في المحصلة، تكشف الحرب على غزة عن فجوة عميقة تتجاوز الخلافات التكتيكية بين الولايات المتحدة والكيان المؤقت، لتصل إلى اختلاف بنيوي في فهم طبيعة الصراع وحدود القوة. فبينما ينطلق العدو من هاجس أمني وجودي يدفعه نحو مقاربة عسكرية مفتوحة، تتعامل واشنطن مع الحرب كملف سياسي-إقليمي معقّد تحكمه اعتبارات دولية، وضغوط داخلية، وحسابات انتخابية، ورغبة في تفادي انفجار أوسع في المنطقة.

هذا التباين لا يعني نهاية التحالف، لكنه يعبّر عن تحوّل في شكل العلاقة وطبيعة التنسيق، حيث لم يعد الطرفان يتحركان وفق رؤية واحدة أو هدف نهائي موحّد. ومع استمرار الحرب بلا أفق سياسي واضح، ستزداد ضغوط الداخل الأميركي، وتتعمّق الخلافات داخل النخب الإسرائيلية، ما يجعل إدارة الصراع أصعب ونتائجه أكثر غموضًا.

وعليه، يبدو أن مستقبل العلاقة بين واشنطن وتل أبيب سيتوقف على قدرة كل منهما على مواءمة أولوياته: بين منطق الأمن الإسرائيلي الذي يسعى إلى الحسم الكامل، ومنطق النفوذ الأميركي الذي يفضّل الاحتواء وتخفيف التوتر. وفي غياب رؤية واقعية تُنهي جذور الصراع، ستظل المنطقة عالقة بين خيارين: حرب بلا نهاية، أو تسوية لم تتبلور شروطها بعد.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.