تركيا والصفقة الكبرى: لماذا اقتربت أنقرة من واشنطن وابتعدت عن طهران وحماس؟

9

شهدت الشهور الأخيرة تحولاً لافتاً في التموضعات الإقليمية لتركيا، ظهر في ثلاث خطوات مترابطة: التقارب المتسارع مع الولايات المتحدة في آسيا الوسطى، وفرض عقوبات وتجميد أصول على جهات إيرانية، وتراجع الزخم السياسي والإعلامي لدعم حماس بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.

هذه الخطوات لم تأتِ معزولة، بل تشكل –وفق قراءة سياسية واقعية– جزءاً من “صفقة استراتيجية” بين أنقرة وواشنطن، تحمل أبعاداً اقتصادية وجيوسياسية عميقة، وترسم ملامح مرحلة جديدة في الدور التركي داخل الإقليم.

أولاً: واشنطن تمنح أنقرة مفتاح آسيا الوسطى

في قمة C5+1 التي جمعت الولايات المتحدة بخمس دول من آسيا الوسطى، برز الدور التركي كلاعب أساسي بين واشنطن وتلك الجمهوريات الغنية بالمعادن الاستراتيجية. وتورّط تركيا في هذه القمة لم يكن بروتوكولياً، بل جاء نتيجة تفاهمات سابقة، تعطي أنقرة: موقع الوسيط الاقتصادي والسياسي في عقود البنية التحية والطاقة والمعادن، وشراكات مشتركة بين الشركات الأميركية والتركية للدخول إلى أسواق آسيا الوسطى، ودورًا جيوسياسيًّا جديدًا يسمح لها بالتغلغل في هذه المنطقة الحيوية، في مواجهة النفوذ الصيني والروسي والإيراني.

بهذه الصفقة، حصلت تركيا على ما يشبه “الامتياز” لتكون الجسر الأميركي نحو آسيا الوسطى، مقابل التزامات لاحقة في ملفات أخرى.

ثانياً: عقوبات تركية على إيران.. رسالة إلى واشنطن
الخطوة الأكثر إثارة كانت إصدار أنقرة مرسوماً رئاسياً يقضي بتجميد أصول أفراد وكيانات إيرانية مرتبطة بالبرنامج النووي والصاروخي. ورغم أن تركيا تقول إنها تطبق ما يصدر عن مجلس الأمن، إلا أن التوقيت والصدفة السياسية يشيران إلى أنّ أنقرة تبعث برسالة مباشرة لواشنطن بأنها مستعدة للتماهي مع الضغوط على طهران، وأن تركيا تسعى لتخفيف الضغط الأميركي في ملف “هالك بنك” وقضايا العقوبات السابقة.

بالإضافة إلى أن النظام التركي يريد تحسين الظروف الاقتصادية الداخلية عبر جذب الاستثمارات الغربية، وهذا يتطلب خطوات “حسن نية” تجاه واشنطن.

العقوبات على إيران ليست فقط إجراءً قانونياً؛ بل هي جزء من الصفقة الأميركية–التركية.

ثالثاً: العلاقة مع حماس.. من الدعم إلى “التوازن”

تركيا لم تُدر ظهرها لحماس فجأة، لكنها غيّرت مستوى الانخراط. فبعد المفاوضات المعقدة لوقف إطلاق النار في غزة، لعبت تركيا دوراً أساسياً في الضغط على حماس لقبول الصيغة النهائية، بطلب مباشر من واشنطن.

وتشير التحليلات إلى أن أنقرة تريد لعب دور “الوسيط المقبول” في الشرق الأوسط، وتسعى لرفع وزنها على الطاولة الأميركية، وهي تستخدم الورقة الفلسطينية لتعزيز شرعيتها الإقليمية.

لكن هذا لا يتحقق إلا عبر علاقة مزدوجة: خطاب سياسي داعم لحماس شعبياً، وسلوك دبلوماسي متمايز يرضي واشنطن.

وهذا التوازن يفسّر “التراجع” النسبي في الحماسة التركية تجاه الحركة مقارنة بالسنوات السابقة.

ما هي الصفقة التي تمت؟
بناءً على مجمل التطورات، يمكن تلخيص “الصفقة الكبيرة” كالآتي:

  1. الولايات المتحدة تمنح تركيا: دوراً محورياً في مشاريع آسيا الوسطى، وانخراطاً في عقود المعادن والطاقة والبنية التحتية، ونافذة لتحسين الاقتصاد التركي عبر الاستثمار الغربي.
  2. تركيا بالمقابل تقدّم لواشنطن: التزاماً بالضغط على إيران عبر العقوبات والتقييد المالي، ودوراً مؤثراً في ضبط حماس ودفعها نحو التهدئة، وتموضعاً إقليمياً أكثر انسجاماً مع المصالح الأميركية.

هذه ليست مجرد صفقة اقتصادية، بل تفاهم استراتيجي يعيد رسم موقع تركيا بين الشرق والغرب.

وضع تركيا اليوم هو كالآتي: تتقارب مع واشنطن لتحسين اقتصادها وإعادة تثبيت دورها الإقليمي، مع إبقاء علاقة محسوبة مع إيران وحماس من دون صدام مباشر، وهي في الوقت نفسه تتسلل بقوة إلى آسيا الوسطى مستفيدة من رغبة واشنطن في محاصرة المنافسين الدوليين.

إنها سياسة براغماتية “أردوغانية” بامتياز: فلا عداوات دائمة، ولا تحالفات مقدسة، بل مصالح تتغير حسب اللحظة والفرصة.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.