مرثيةٌ لعزيز باقٍ فينا
ميساء حمود مطر – خاص الناشر |
لم أعرف حرقة قلب نوح على ابنه، ولا ابيضّت عيناي لأي حزن كعيني يعقوب. لم أعهد نار فراق حارقة كنار أم موسى، ولم يرتعد قلبي كارتعاد قلب آمنة حين غادرها محمد لديار حليمة. كان مقياس زمن الحزن لا يعدو مرور سحابة صيف لا أكثر،
حتى فجعت بك وقضي الأمر واندفع الحزن كُلًّا واحدًا في صدري، فخبرت حزن الأولين والآخرين والفاقدين الوالهين والتواقين المتعبين المساكين، من أي الأعراق والأجناس والمآرب والمشارب كانوا، كل حزن مرّ على وجه البسيطة صرت شريكة فيه ونال قلبي قسطًا من لوعته حين فُجعت بك.
الفقد مرتبط بالغياب، ويستتبع الحزن، فكيف ازددت حضورًا في فقدك حتى أحطت بنا من كل جانب، فصرت رمشة العين وخفقة القلب وغصة الكلام والفكرة الثابتة في العقل التي لا يمسها النسيان أو الشرود؟
قالوا إن الحزن يفتت القلب كما يفتت الصخر، لعل الحزن عليك من نوع آخر؟ أسمع تفتت قلبي كلما لمحت طيفك، أضع يدي على قلبي كلما سمعت صوتك، كأني أحمله بين يديّ قبل أن يهوي. أسمع دمعي حين يسيل إذا ذكر اسمك أو مدحك. هل يسمع الحزن؟ يبدو أن الحزن عليك له طابع جديد، حزنٌ يُسمع وتنخلع له القلوب والأفئدة في لحظة لتستقر بعدها.
قد تظن أن حزني مبالغ فيه، صدقني يا سيّد حاولت مرارًا أن أفهم ماهية هذا الحزن،؟ لماذ يكبر؟ لماذا تستجيب العين سريعاً؟ ولماذا يغور القلب تلقائيًّا؟ أدرت الطرف صوب سني عمرك وشبابك فوجدتك آسر الحضور، وقّاد الذهن وحلو المحيّا ووجهك القمحي يشبه الأرض. لم تكن غريبًا، كنت ابن هذه الأرض فأحبوك وتلمسوا أثرك وما خابوا. مررت على سني رجولتك وعنفوانك فإذا أنا أمام رَجلٍ أيقونة، مقدام شجاع خاض بشعبه غمار الخطر وما هاب. كأن لكلمته وقع الوحي عليهم. وكلما خطا به العمر ازدادوا به ولهًا وعشقًا. ليتهم عرفوا أن هذا العشق سيستحيل وخزًا قاتلًا في أرواحهم حين الفقد. ليتهم عرفوا.
ولا زلت تائهة في تبيان سر هذا الألم، فأعوام شبابك كما أعوام رجولتك مضمخة فخرًا وعزًا وأمان. لا خوف في حضورك لا ضياع.
في أفراحنا كنت أول الحاضرين وفي عزائنا كان العزاء حضورك، في تكالب الفتن علينا كان خطابك البوصلة والفصل، وفي تكالب أبناء جلدتنا كنت الحصن والحمى والكهف. إذا رمنا قربًا من الله أتت كلماتك لتجعل هذا القرب ممكنًا وواقعيا. كنت الأمان الذي أحاط بنا، ولشدة حضوره ما وعيناه. أيعقل أن يكون هذا سبب الألم؟
حتى بان الشيب على كريمتك، وكنا سرًا نغض الطرف عن جمالك وندعو الله أن يؤجل انقضاء عمرك وأن يكون الشيب من أثر الهم والتعب وليس امتدادًا للعمر. كم كنت جميلًا وبهيًّا. كم كان بياض اللحية والثغر الباسم يليق يا سيّد. كم كنت ربانيًا وكم كنا غرقى في عشقك فلم نبصر غيرك. أيكون هذا سبب الألم؟ أن تنسلخ عنا في ذروة الاحتياج؟ أن يختصك الله بالشهادة ونحن نتلمس آثار خطواتك وبيانك فلا نجدك، نحن المكلومين المتعبين الحاملين حزن العالم كله، لا نجدك؟
أعرف أن هذا ثقيل عليك أيها المرهف الحنون. لا بأس نحتاج أعمارًا فوق أعمارنا كي نبكيك.
أيها المهذب الودود، أتعلم أننا نبكي لسماع لثغة الراء؟ أن صورة لك معلقة في أحياء متعبة مستضعفة قادرة على إشعال بركان من الآهات؟ أنت تعلم وتدرك كيف اختلط عمرنا بحركاتك وسكناتك ومع هذا رحلت.
أؤمن بشدة أن هناك صلة بين الكون والإنسان، أوجدها الله. وأؤمن أكثر أن الكون سُخر لخاصة الأولياء، وأنك من خاصتهم. وأدرك أن الكون غمره الحزن لفراقك. وهاج في تلك اللحظة فانسكب الحزن على قلوبنا شلالاً. كأن الكون قد أضمر لحظات الحزن من كل البشرية وخبأها حتى انهال بها علينا كالصعقة، فبكينا حزن نوح وفقد يعقوب ويتم محمد وضربة رأس علي وسمّ الحسن ونحر الحسين وغربة المهدي وكل مآسي المقهورين المستضعفين. بكيناها جمعًا في لحظة فقدك. كأن حزن الكون وجد قهرنا متنفسًا فانساب رقراقًا غامرًا ولا زال.
أيعقل أن يكون دمك فداء لكل هذا الحزن؟ أن تكون تجسيدًا لآلام الأرض جميعها؟ الآن عرفت سبب الحزن الذي استحال ألمًا. أن يستشهد الرجل ذلك فوز عظيم لا ريب، ولكن أن يستشهد رجل حوى خلاصة حزن وصفاء وطهر وحزم البشرية منذ الأزل، فإنه نبأ لو تعلمون عظيم.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.