“ارموا الجزم”…

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

سارة الدنف- خاص الناشر |

“هذا التصرّف الحيواني، غير مرحَّب به”. كلا، ما سبق لم يصدر عن “الحكومة” اللبنانية أمام التعدّي على سيادتها، ولا كان تصريحًا من رئيس الجمهورية ضدّ الاعتداءات على الجنوب، بل هو طريقة المستعمر الأميركيّ في “تعليم” صحافيينا كيفيّة التصرّف في المؤتمرات التي يعطينا فيها “شرف” وجوده، مع دهس طفيفٍ لـ”شرف” وجودنا.

الجزمات الغربيّة من المحبّبة على رقاب بعض اللبنانيين، هذا لا شكّ فيه. فهم المعتادون على أن يُسار عليهم، بدلًا من أن “يسيروا” بشبه كرامة على سجّاد بُسط أمامهم، ولو ببعض من دم لحفظ ما تبقّى من ماء الوجه، أو بعض من رماد عزّة . لقد حفظوا الدرس جيّدًا: المنصب أغلى من الكرامة، والبقاء في المنصب أثمن من أيّ دمٍ مسفوك.

لم تترافق جملة الأميركي مع هذا القدر من “الرقي” وحسب، بل أضاف عليها نبرة تهديد أبوية: “إن لم تتصرّفوا بتهذيب، فسنرحل”. هل يعلم باراك، أنه وإن استثنينا الخونة في البلاد، فزيارته أساسًا غير مرحَّبٍ بها؟ أم أنّنا بحاجةٍ إلى “منتظر زيديّ” لبنانيّ، ليقدّم له قبلة الوداع التي يستحقها؟

لكن أين للبنان أن يُنجب “منتظرًا” آخر، وهو الذي “يُخاطَبُ” بالجزمة بدلًا من أن يضرب بها؟ فهنا، كلّ اعتراض يُصنّف تخريبًا، وكلّ احتجاج يُختصر بالفوضى، وكلّ محاولةٍ لكسر الإيقاع الأميركيّ يُحاصرها خطاب “التوازن” و”الحياد”. بلدٌ تُكمَّمُ فيه أصوات الناس أثناء لعق دولتهم للأحذية، ويُختزل فيه الغضبُ الشعبيّ إلى تصريحٍ باهت عن “الحرص على الاستقرار”، وكأنّ الاستقرار يعني الاستمرار في الجلوس على كراسٍ مثقوبةٍ بعار التبعيّة.

ليس الأمر وليد اليوم. فمنذ الحرب الأهليّة حتى الطائف، ومن الطائف حتى اليوم، ظلّت البلاد تعيش على إيقاع “الوصاية”: مرّةً سورية، مرّةً سعودية، مرّةً فرنسية، ومؤخّرًا أميركية بوجهٍ مباشر. والنتيجة واحدة: طبقة سياسيّة تستبدل الأسياد كما تُستبدل ربطات العنق، من غير أن تفكّر بما يعنيه أن تكون سيّد نفسك، ولو لمرّة واحدة.

إنّ ما يُراد لنا ليس مجرّد التهذيب في حضرة الزائر الأميركيّ، بل التحوّل إلى موظّفين صغار في مكتب كبير اسمه الشرق الأوسط، على طريقة corporate america، نصفّق حين يُقال لنا: “صفّقوا”، ونصمت حين يُقال لنا وما بين التصفيق والصمت، تبقى كرامة شعبٍ بأكمله متروكةً على الطاولة، تُساوَم عليها بالبراميل الفارغة من السيادة، وتُباع في مزادات المساعدات.

ربّما لا نملك شجاعة الزيدي، ولا جرأته، ولا فرصة أن يدوّي صوتُ “قبلة الوداع” في قاعة لبنانية. لكن ما نملكه، أو ما تبقّى منه، هو ذاكرةٌ عن أنّ الجزمة لم تخلق للـ”تمجيد” كما يعتقد زعماؤنا، بل لتضرب رؤوس المتبجّحين أمثال برّاك، وأنّ رميَها، (لا الانحناء لها) يمثّل “الترحيب” الرسميّ الوحيد الذي يليق به.
فالجزمة التي ارتطمت برأس بوش لم تكن قطعة جلدٍ رخيصة، بل كلّ الغضب العراقيّ المتراكم. أمّا نحن، فكلّ ما نملكه غضبٌ نُعيد تدويره في مقاهي بيروت ومنابرها، وشَعر أورتاغوس الذي نُصفّفه بأرواح موتانا.

الساسة يصادرون الأصوات، هذه مهمّتهم. يزوّرون الانتخابات، يوزّعون المناصب، ويخترعون سيادة على قياسهم، متناسين أن “سادية” المستعمر من جهتها، لا تجيء دومًا بالضحك والكلمة الهادئة، وعندما يضيق ذرعًا، لن يكتفي بالـ”توبيخ”، بل سيستحضر السياط ويجلدنا، على منابرنا، بلغتنا، على أرضنا، وبترابنا. سيقتلنا، بذلك السلاح الذي تريدون منّا أن نُسلّمه.

جزماتنا معلّقة في خزائن الخوف، في حين “نُشهر” ميكروفوناتنا، كي تُلمّع جزماتهم.

لُظّخنا بما فيه الكفاية، فلا ضير من المشي حفاة وتلطيخ القَدَم. كفى “انتظارًا”… ارموا الجِزَم!

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد