د. أكرم شمص | خاص الناشر
في الليلتين الثالثة والرابعة من المجالس العاشورائية المركزية في مجمّع سيّد الشهداء (ع) بالضاحية الجنوبية، تقدّم الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، ثمّ رئيس المجلس التنفيذي الشيخ علي دعموش، بخطابين متكاملين في الشكل والجوهر، ليؤكدا أن عاشوراء ليست فقط مناسبة دينية، بل محطة سياسية – عقائدية لتجديد العهد، وتثبيت معادلات المواجهة مع الاحتلال والتكفير والطغيان.
أولًا: “نعد العدّة والبقية على الله”.. قاسم يرسم القاعدة
في خطاب استثنائي، أعلن الشيخ نعيم قاسم أن المقاومة ثابتة في نهجها، موقنة بوعدها الإلهي، متسلّحة بالعدّة، منتظرة النصر من عند الله. وحين تحدّث عن الدعم لغزّة، والمواجهة مع العدو، وواقع الداخل اللبناني، لم يكن يصف واقعًا فقط، بل كان يؤسّس لمرحلة ويضع خارطة الطريق لما بعد وقف إطلاق النار. وكان الموقف الحاسم حين قال: “هل تتصوروا أن نظل ساكتين إلى أبد الآبدين؟ هذا غير صحيح. نحن جماعة هيهات منا الذلة، ولقد جربتمونا”.
هذه الجملة تنذر بأن أي استمرار في الاعتداءات سيُواجَه برد، وقد تخرج المقاومة من حالة الانضباط إذا ثبت فشل الدولة في القيام بواجبها. وهنا مزّق قاسم أوهام التهديدات الخليجية والأميركية، ليعلن أن المقاومة لا تقرأ رسائل الخنوع، بل تكتب التاريخ بدمها وصبرها، وأن المقاومة لا تستقبل الأوامر ولا تُغيّر وجهتها بناءً على رسائل دولية، بل تعتمد قرارها المستقل النابع من عقيدتها وتجربتها.
ثانيًا: “سنردّد ما تركتك يا حسين”.. دعموش يكرّس الخطّ والامتداد
وفي الليلة التالية، لم تكن كلمة الشيخ علي دعموش خروجًا عن السياق، بل امتدادًا طبيعيًا لصوت القيادة. انطلق من حيث أنهى الشيخ قاسم، ليُعيد تثبيت معادلة: “المقاومة عقيدة وموقف وحياة”.
عاشوراء عقيدة زمنية لا تاريخية
دعموش اعتبر أن الخطاب الحسيني ليس محصورًا بزمان أو مكان، بل ممتد إلى كلّ جيلٍ يقف في وجه الظلم. من كربلاء إلى فلسطين، ومن الحسين إلى الإمام المهدي (عج)، الصراع مستمرّ بين الحق والباطل، ولا يزال صوت “هل من ناصر؟” يدوّي، وتبقى الإجابة: “لبيك يا حسين”.
إيران والمقاومة.. المعادلة الكبرى
الشيخ دعموش شرح بإسهاب ما حاول الإعلام الغربي والعربي طمسه: أن الجمهورية الإسلامية صمدت، ردّت، وتفوقت، وأن هدف إسقاط النظام الإيراني وهمٌ في عقول نتنياهو وترامب. وقال: “إيران لم تسقط قدراتها، ولم يسقط برنامجها النووي، بل خرجت من الحرب أكثر تماسكًا”.
هذا الموقف يأتي ليُكمل رواية الشيخ قاسم عن دعم غزّة، ويقول بوضوح: ما يجمعنا مع طهران ليس السياسة بل العقيدة والميدان.
ثالثًا: من صبر عاشوراء إلى صبر الجبهة
بين قاسم ودعموش، بُنيت نظرية الصبر المقاوم:
قاسم قال: “النصر مع الصبر والفرج مع الكرب”، ودعموش قال: “إستراتيجية الصبر لا تعنى أننا ضعفاء”.
الصبر هنا ليس تراجعًا بل تكتيك قوة. وفي مواجهة الاعتداءات الصهيونية على الجنوب، لا أحد يتحدث عن الاستسلام، بل عن مزيد من الالتزام، والصمود، وإعادة الإعمار، ولو على نفقة الناس والمجتمع.
رابعًا: الدولة الغائبة والمقاومة الحاضرة
في الوقت الذي حمّل فيه قاسم الدولة اللبنانية مسؤولية ردع العدوان، عاد دعموش ليُهاجم أداء الحكومة في إعادة الإعمار، متسائلًا: “لماذا لا تبادر الوزارات؟ أليس بمقدورها الترميم ولو بشكل محدود؟”. وحين قال إن العراق ينتظر آلية تعاون لبنانية، كانت رسالته واضحة: المقاومة لا يمكن أن تحلّ مكان الدولة، لكن الدولة لا تقوم بواجبها.
خامسًا: التطبيع خيانة والمقاومة قدر
رغم أن الشيخ قاسم لم يتطرّق مباشرة إلى ملف التطبيع، فإن دعموش حمل هذه الراية بوضوح، معتبرًا أن “من يدعو للتطبيع إنما يأخذ لبنان إلى فتنة داخلية وتدمير للدولة”. وأكد أن وجود المقاومة هو الذي يمنع أن يتحوّل لبنان إلى غزّة محاصرة أو سورية مدمّرة، وأن المقاومة ليست خيارًا سياسيًا بل حاجة وجودية في وجه الاحتلال والاستكبار.
سادسًا: وحدة الجبهة وحدة الخطاب
كلمة الشيخ نعيم قاسم تُعَدّ بيانًا سياسيًا عقائديًا عسكريًا يرسم معالم المرحلة القادمة، ويؤكد أن:
- وقف إطلاق النار ليس نهاية الصراع.
- حزب الله لن يقبل بتحييد قوته إذا استمر العدوان أو فشلت الدولة.
- المقاومة مستمرة لأن مشروعها إيماني ووجودي.
- دعم غزّة لم يكن خيارًا بل واجبًا.
- العزة والشهادة هما الخيار الوحيد أمام مشروع الذل والاستسلام.
وفي تحذير واضح من الاستمرار في الاعتداءات الإسرائيلية، قال: “هل هناك من لديه عقل يُلغي عوامل القوّة لديه بينما العدوّ يواصل اعتداءاته؟”.
على خط مواز قال الشيخ دعموش: “من الصعب أن نقف هذا الموقف دون أن نستحضر خطاب سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله”.
هذه الجملة الافتتاحية تُشكّل جسرًا وجدانيًا سياسيًا عقائديًا بين الماضي القريب والحاضر، بين القائد الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله، الذي استشهد في بداية العدوان، وقيادة المقاومة المستمرة في التعبئة والتموضع.
“طالما هناك طغيان واستكبار وكيان صهيوني ينشر الإرهاب… علينا أن نلبي النداء”.
الشيخ دعموش لا يطرح المقاومة كخيار، بل كـواجب شرعي دائم، ما دام هناك ظلم قائم. وهذا يحمّل الجمهور مسؤولية المشاركة، لا فقط الاحتضان، فـ”ضريبة التلبية” هي الاستعداد للتضحية بالغالي والنفيس.
الخاتمة
ما بين كلمتي الشيخ نعيم قاسم والشيخ علي دعموش، لا توجد ازدواجية أو تباين، بل تكامل منهجي في الرؤية والقيادة:
- قاسم وضع الإطار العقائدي والسياسي. في عاشوراء، لا مجال للحياد، ولا مكان للوساطات، ولا طحين يُنتظر من “رسائل السفارات”. وبين أن نكون أحرارًا أو عبيدًا، حسمها الشيخ: “عندما نكون مخيّرين، ليس لدينا إلا خيار واحد: العزّة، والنصر أو الشهادة”.
- دعموش شرح التطبيق الميداني والمؤسسي.
- كلاهما قال: نحن على عهد الحسين، وبدماء شهدائنا، لن نقبل التراجع.
ينقسم الخطابان إلى ثلاثة مستويات:
- عقائدي – حسيني: المقاومة استمرارٌ لعاشوراء.
- سياسي – إقليمي: من بيروت إلى طهران، المحور واحد والمعركة واحدة.
- اجتماعي – تربوي: بناء الإنسان المقاوم في بيته كما في ساحة المعركة.
وقد جاء استحضار خطاب الشهيد السيد حسن نصر الله في أول الكلام ليؤكد أن الرموز تُستشهد أجسادها، لكن خطابها يُخلّد في الضمير الجماعي المقاوم. وفي زمن التهديدات والمبادرات والوسطاء والرسائل، حسمها قادة المقاومة في عاشوراء: “نحن نعد العدّة، والبقية على الله. ولن نتراجع، لأننا ما تركناك يا حسين”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.