محمد علي | خاص الناشر
تصريح رئيس الحكومة نوّاف سلام بأنَّ أمن مطار بيروت فوق كلِّ الاعتبارات، الجملة الوحيدة التي سلمت من التَّأتأة وفهمتها من دون الاستعانة بأهل النَّحو والبلاغة، انقلبت عليه وأوقعته في اعتراف خطير، فارتفع الغطاء عن وَهْنِ السُّلطة وتهافت جبل أكاذيب الانعزاليِّين. وسقوط السَّرديَّة باعتراف رئيس الحكومة هديَّة للمقاومة!
ذلك أنَّه اتَّضح من خلال خضوع رئيس الحكومة لتهديدات “إسرائيل” بقصف مطار بيروت الدُّوليّ في حال استقبل طائرة إيرانيَّة تحمل مواطنين لبنانيِّين أنَّ الدَّولة اللُّبنانيَّة عاجزة عن حماية لبنان، وأنَّ الواقع الحاليّ يحكي تحقُّق ما حذَّرنا منه عندما قلنا: إنَّه لا يمكن لأميركا في يوم من الأيَّام أن تؤثِر مجموعة من السُّذَّج وقليلي الشَّرف في لبنان على المشروع الصُّهيونيِّ ومصالحها المشتركة مع أهمِّ امتداد إستراتيجيّ لها، ألا وهو الكيان الغاصب.
ما لا يفهمه الجُهَّال الذين لو ابتلعهم التَّاريخ الذي لا يولونه أيَّة أهمِّيَّة لكان أخفُّ وطأةً على هذا البلد، هو أنَّ لبنان بالنِّسبة لأميركا يقع ضمن “تصاميمها الكونيَّة”، كما عبَّرت الإدارة الأميركيَّة في عهد روزفلت، وليس بلدًا معزولًا مستثنى من مخطَّطاتها الإستراتيجيَّة. هو عبارة عن بقعة جغرافيَّة يجب استثمارها. هذه هي نظرة أميركا للعالم ومنها تنطلق في أدائها السِّياسيّ، وهذا هو هدفها الذي لا تحيد عنه لأنَّ ذلك بمثابة انحراف عن مقتضى نزعة الاستثنائيَّة التي تعتريهم. لبنان كغيره من البلدان، لا يخرجه شيء من كلِّيَّة وجوب خضوعه للهيمنة وقبوله بإباحة “سيادته” متى ما شاءت أميركا. أمَّا رئيس الحكومة، فإن كان لا يعلم فتلك مصيبة؛ وإن كان يعلم فالمصيبة أعظمُ!
فهو يقرُّ بعجزه عن منع “إسرائيل” من قصف لبنان، وبعجزه عن جعل أميركا تمنع ذلك، وهذا المقدار يكفي لإسقاط سرديَّة صهاينة الدَّاخل الانعزاليِّين، الذين بانكشاف انبطاح دولتهم يظهر أنَّهم دُعاة تطبيع واحتلال وليس سيادة واستقلال، وأنَّ ادِّعاءهم إمكانيَّة الاستغناء عن المقاومة جنون في ظلِّ غياب البديل، إن لم نصفه بشيء آخر!
ولكنَّ رئيس الحكومة أبى إلّا أن يؤدِّي واجب الخضوع مع بعض “المستحبَّات”، فبدلًا من الاكتفاء بالاعتراف بأنَّ حكومته عاجزة عن حماية لبنان وأنَّ رعاية أميركا لا تشمل ذلك، أرسل الجيش اللُّبنانيّ إلى طريق المطار لمواجهة متظاهرين سلميِّين ذهبوا لإدانة انتهاك سيادة لبنان من قِبل الكيان الصُّهيونيّ، فأطلق الجيش “الوطنيّ” على “أهله” الرَّصاص، وألقى عليهم القنابل المسيلة للدُّموع على قاعدة “أسدٌ عليَّ وفي الحُروبِ نعامةٌ”.
كان الجيش الإسرائيليّ في تلك الأثناء ينفِّذ الغارات ويفجِّر بيوت المتظاهرين في قرى الجنوب؛ الجنوب الذي ما زال محتلًّا بعد أن سمحت بذلك سلطة لبنان المنبثقة من رعاية أميركا لاتِّفاق وقف إطلاق النَّار، والتي رضيت مؤخَّرًا بامرأة صهيونيَّة تقف في قصر بعبدا كأنَّها “ربَّة البيت” وتمدح مجازر الكيان اللَّقيط، فكانت السُّلطة ما كانت بالملازمة، فصدق المثل الأميركيّ القائل: “التُّفاحة لا تقع على بُعد من الشَّجرة”، واللَّبيب من الإشارة يفهمُ!
ثُمَّ يأتي من لا نشبهه ليقول: لا داعي للسِّلاح، والدَّولة قويَّة باختبائها وراء أميركا. نعم، ثِقوا بأميركا التي خذلت الفلبين، وتايوان، والأكراد، وخذلت وخذلت، إلى أن جاء دور أوكرانيا في الأُسبوع الماضي. يدعونا إلى ذلك مَن أهان رموزنا ومقدَّساتنا الدِّينيَّة، وحرَّض العدوّ الصَّهيونيّ على قتل أطفالنا ونسائنا علنًا، وشمت بشهدائنا وسخر من جرحانا، ثُمَّ صرَّح بعد وقف إطلاق النَّار بأنَّه يريد من أميركا و”إسرائيل” استكمال العدوان من أجل القضاء على الحزب بالكامل وفرض واقع جديد في لبنان. فشل هؤلاء في السِّياسة فأوكلوا أُمور بيتهم إلى أجنبيّ لا يؤمن بالحُرُمات. ليتهم يشبهوننا فيعرفوا أن ما هكذا تُحفظ “العلاقات”، ولا بالاستقواء بالخارج يُفرض الحضور وتوضع “التَّوازنات”، ولا بالرِّهان على الإبادة تُضمن “السِّيادة”!
يقولون: لقد انتهت المقاومة. لكن إذا كان الحزب ضعيفًا إلى الحدِّ الذي يزعمون، وبات لبنان يشعر بالتَّحرُّر من “فائض القوَّة” كما يصوِّرون، فلماذا تخيفهم فكرة تشييع السَّيِّد نصر الله؟ ببساطة، لأنَّ اسمه يرعبهم، بل يرعب من يملي عليهم؛ أوَلم يُعجز أسيادَهم لمدَّة ثلاثين عامًا فلمَّا قرَّروا المضيّ بمشروع تغيير وجه المنطقة اغتالوه بأكثر من ثمانين طنًّا من القنابل استفراغًا لما أودع فيهم من الانهزام والتَّعاسة، وبذلك أعلنوها حربًا على شيعة لبنان، حتّى إذا عزم جيش العدوّ على الدُّخول برًّا مُرِّغ أنفه في تراب الخيام وشمع وكفر كلا وسائر قُرى أُباة الضَّيم من الجنوبيِّين والبقاعيِّين، ولم يصل إلى قُرى الخطِّ الثَّاني فضلًا عن تقديم البلد على طبق من ذهب إلى أدوات أميركا المحلِّيِّين كما تصوَّروا لسذاجتهم أنَّه كان سيفعل.
ربَّما لن يستيقظ هؤلاء من هجعتهم قبل أن تُقلب الطَّاولة عند انتقام ربِّ العزَّة من المجرمين والرَّاضين بفعالهم، أو اكتشافهم أنَّ من يستغلّهم لن يحميهم عند وقوع الواقعة التي إليها يدعون. لكن جدير برئيس الجمهوريَّة ورئيس الحكومة وسائر من يُتوقَّع منهم الرُّشد والوطنيَّة، لا الانجرار والتَّبعيَّة، أن يلتفتوا إلى ما ينتظر البلد في ما لو فقد لبنان المانع الوحيد من حلوله في مشروع “إسرائيل الكُبرى”، وأصبح مرهونًا بأحكام “قوانين الجاذبيَّة السِّياسيَّة” كما عبَّر الرَّئيس الأميركيّ السَّابق جون كوينسي آدامز! هذا لو فُرض أنَّ السُّلطة اللُّبنانيَّة اليوم غير ملتفتة، وإلّا فبداية العهد تدلُّ على العكس.
استمرار أداء السُّلطة الحاليّ قد يؤدِّي إلى حرب أهليَّة وتقسيم ينتظره من لديه مشاريع توسُّعيَّة. هل تدبَّر رئيس الحكومة في أبعاد الطَّاعة المطلقة لأميركا؟ ربَّما لديه خُطَّة فاتتني عند اضطراب مخارج الحروف. سأقول ما أعلمه وما لا أعلمه. أعلم أنَّ الانقياد لأوامر أميركا يعني بالضَّرورة عدم مزاحمة “إسرائيل”، فإذا كان سلام يريد التَّطبيع فليصرِّح بذلك علنًا. ولكنَّني لا أعلم طريقة سلميَّة لفرض معادلات ترضي “إسرائيل” ويلزم منها إلغاء مكوِّن لبنانيّ يمثِّل ٣٠% من الشَّعب بالحدِّ الأدنى، بل ونسبة كبيرة من الجيش اللُّبنانيّ وسائر الأجهزة الأمنيَّة ومؤسَّسات الدَّولة.
فهل سيكتب التَّاريخ أنَّ اندثار لبنان وانعدام جغرافيَّته كان في عهد الرَّئيسين جوزيف عون ونوّاف سلام، أم أنَّهما سيقرِّران أنَّ “السِّيادة” لا تحتاج إلى إذن قوى أجنبيَّة وإلّا صارت إسمًا دون مسمّى؟ هذا هو السُّؤال، والأيَّام ستكشف لنا واقع الحال!
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.