يشهد العالم تحولات جذرية في موازين القوى العسكرية العالمية والإقليمية، ويزداد المشهد الجيوسياسي تعقيدًا وتوترًا، في ظل التطور التكنولوجي المتعاظم في الصناعات العسكرية الذي أدّى إلى انقسام عسكري عمودي بين الشرق والغرب، وأصبحت الصواريخ الباليستية محور اهتمام العديد من الدول، حيث تُستثمر الموارد بشكل ضخم في هذا المجال لما تمتاز به هذه الصواريخ من قدرات هائلة على توجيه ضربات غير متوقعة، دقيقة، وبعيدة المدى.
يعكس الاهتمام المتزايد بهذه التكنولوجيا – لدى الدول الشرقية – محاولة لتغيير وتثبيت فلسفة ردع مغايرة لما هو متعارف عليه في العالم نتيجة القصور في بعض المجالات العسكرية التقليدية منها والجديدة كسلاح الجو والأنظمة الدفاعية المتقدمة.
بفضل خصائصها، مثل القدرة على المناورة والسرعة الفائقة وحمل رؤوس متفجرة تقليدية أو غير تقليدية (نووية أو كيميائية)، أصبحت الصواريخ الباليستية إحدى وسائل فرض الهيبة وتحقيق الردع الإستراتيجي وجزءًا لا يتجزأ من معادلات الصراع الحديثة، حيث تؤدي دورًا محوريًا في توجيه الرسائل السياسية وفرض الأمر الواقع، سواء في أوقات السلم أو الحرب.
من هنا، فإن فهم التحولات المرتبطة بالصواريخ الباليستية يستلزم التعمق في دوافع الدول لتطويرها، والتحديات التي تواجهها، والتداعيات الإستراتيجية المترتبة على استخدامها في سياقات الصراع المختلفة. فالصواريخ الباليستية هي صواريخ تُطلق على أهداف محدّدة باستخدام مسار مقوس يعتمد على قوى الجاذبية والزخم بعد انتهاء مرحلة الدفع، وتتألف من عدة أقسام كأنظمة الدفع التي يعتمد الصاروخ عليها للانطلاق وهي محركات تعمل بالوقود الصلب أو السائل، ثمّ أنظمة التوجيه والملاحة ومنها التقليدية كالجيرسكوب وأنظمة الملاحة بالقصور الذاتي “INS” والحديثة كـ “GPS” وما يعادله من منظومات أخرى، ورادارات مدمجة لتصحيح المسار أثناء الطيران. وأخيرًا، الرأس الحربي الذي يمكن أن يكون تقليديًّا أو غير تقليدي (نووي أو كيميائي) ولاحقًا رؤوس متعددة “MIRV” ورؤوس حربية قابلة للمناورة “MARV”.
خلال النصف الأول من القرن العشرين، أطلق الجيش الألماني صواريخ متقدمة للغاية من طراز “V – 2” باتّجاه بريطانيا ليكون أول صاروخ باليستي يعمل بالوقود السائل ويستخدم أنظمة توجيه بالقصور الذاتي وتقنيات الدفع الصاروخي سالكًا مسارًا شبه مداري لضرب أهداف على مسافات بعيدة دون الحاجة إلى طائرات حربية، مُحدثًا تحولًا جذريًا في موازين القوى وإستراتيجيات الحروب وليصبح حجر أساس لتطوير الصواريخ الباليستية الحديثة. لكن رغم أهميته لم تستطع المانيا حسم الحرب لصالحها، إلا أنه أثبت أن الصواريخ الباليستية يمكن أن تكون سلاحًا إستراتيجيًا له تأثير نفسي وعسكري كبير.
مع نهاية الحرب قامت دول الحلفاء كالولايات المتحدة الأميركية بـ ”عملية مشبك الورق“ والاتحاد السوفيتي بـ ”عملية أُسُوأفياخيم“ والتي هدفت لنقل العلماء والمهندسين والفنيين في المجالات العسكرية من ألمانيا إلى أراضيها لبناء برامجهم الصاروخية الخاصة.
ظهر أول تأثيرات الصواريخ الباليستية على الواقع السياسي العالمي بداية الحرب الباردة، فتحولت من كونها أسلحة ميدانية نارية إلى أسلحة ذات ابعاد إستراتيجية ضمن سباق التسلح بين قطبي العالم – الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي – آنذاك. أطلق السوفييت أول صاروخ باليستي عابر للقارات “ICBM” في عام 1957، “R – 7 Semyorka” والذي اعتبر نقطة تحول في الصراع لما يحمله من رسائل نارية في قدرة الاتحاد السوفيتي على تهديد الأراضي الأميركية مباشرة، ما استدعى الولايات المتحدة للرد بسرعة عبر تقديم وتطوير منظومة صواريخ “Atlas” و“Titan Rocket” مع التركيز على تحسين الدقة وزيادة المدى. فتح هذا التحول السريع الباب امام الدول للاتّجاه نحو تزويد الصواريخ الباليستية بالرؤوس النووية. وقد برزت عقيدة ”الدمار المتبادل المؤكد – MAD “، القائمة على التهديد باستخدام الصواريخ النووية ضدّ العدوّ بمنعه من استخدام تلك الأسلحة ذاتها لتشكّل وسيلة ردع لتجنب نشوب الحروب.
أدى انتشار وتطوير الصواريخ الباليستية إلى استنزاف الموارد بشكل كبير ما ألقى بظلاله على سياسات الدول الكبيرة والصغيرة الاقتصادية منها والعسكرية كإقامة التحالفات ”حلف وارسو“ و”حلف شمال الأطلسي“ لضمان الحماية من أي خطر أو تهديد صاروخي.
ومع انتهاء الحرب الباردة، دخلت قوى جديدة إلى قائمة الدول التي تمتلك هذه التقنيات وتم استخدامها من قبل بعض الدول كالعراق عام 1991 عندما أطلق 42 صاروخ “SCUD” باتّجاه فلسطين المحتلة، ودول أخرى لتعزيز موقفها السياسي والعسكري كالجمهورية الإسلامية الإيرانية وكوريا الشمالية اللتين طورتا برامجهما الخاصة رغم الحصار لتعزيز توازن الردع ومواجهة الضغوط الدولية. وقد ظهرت النتائج الإيجابية لبرامجهم في الحروب الحالية كـ ”عمليات الوعد الصادق 1 و2“ والضربات الصاروخية الروسية على أوكرانيا. أمّا في اليمن، فقد استخدمت القوات المسلحة اليمنية صواريخ باليستية مطورة محليًا لضرب أهداف في فلسطين المحتلة ضمن عمليات الإسناد لغزّة.
لم يقتصر امتلاك الدول للصواريخ فحسب، بل وصل إلى بعض حركات المقاومة في غرب آسيا كحزب الله اللبناني الذي طور ترسانة صاروخية كبيرة من صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بدعم إيراني وسوري بهدف إقامة توازن ردع مع العدوّ الإسرائيلي.
على مر العقود، شهدت الصواريخ الباليستية تطوّرًا كبيرًا وتحديثات جعلتها أكثر فعالية ودقة واُنتجت بعدة تصنيفات ومديات كصواريخ قصيرة المدى “SRBM” ذات مدى أقل من 1,000 كيلومتر وصواريخ متوسطة المدى “MRBM” بمدى حتّى 3,500 كيلومتر، والتي تُستخدم لضرب أهداف إستراتيجية ضمن مناطق إقليمية في ما جرى التركيز على صواريخ طويلة المدى “IRBM” التي يصل مداها حتّى 5,500 كيلومتر والصواريخ العابرة للقارات “ICBM” التي يزيد مداها عن 5,500 كيلومتر وهي الأهم في ترسانات الدول الكبرى وغالبًا تحمل رؤوسًا نووية. بالإضافة للتصنيفات جرت تعديلات وتطويرات أخرى كتصنيع الرؤوس المتعددة المناورة “MIRV” والتي تُمكِّن الصاروخ من حمل عدة رؤوس متفجرة تقليدية أو غير تقليدية (نووية أو كيميائية)، يمكن توجيهها إلى أهداف متعددة.
بالإضافة للقوة التدميرية، ظهرت الصواريخ الفرط صوتية والتي تتميّز بسرعات تتجاوز سرعة الصوت بخمس مرات على الأقل ”5 ماخ“، لتكون الامتحان لأنظمة الدفاع الجوي لاعتراضها وحماية المراكز الحساسة والمنشآت العسكرية.
على الصعيد الاقتصادي، تضطر الدول إلى تخصيص موارد كبيرة لتطوير هذه الصواريخ أو لمواجهة خطرها، فالدول المطورة يتوجب عليها تكاليف البحث والتطوير عبر استثمارات ضخمة في الأبحاث العلمية والتكنولوجية خصوصًا في مجالات الدفع الصاروخي، وأنظمة التوجيه، والرؤوس الحربية. بالإضافة إلى البنية التحتية اللازمة كقواعد الإطلاق ومراكز التخزين والمصانع والمختبرات التي تُمثل عبئًا إضافيًا على الميزانية الوطنية. اما على الدول المستهدفة فإن زيادة الانفاق الدفاعي يشكّل البند الأساسي في موازنات الدفاع عبر صرف مبالغ ضخمة في تطوير أنظمة دفاع صاروخي يمكنها من توفير الحماية امام التهديدات والتي يمكن أن تسبب اضطرابات اقتصادية وتراجع للاستثمارات الأجنبية في هذه الدول كما حصل عام 2019 بعد استهداف القوات المسلحة اليمنية لمنشآت “ARAMCO” وما تبعها من تقلبات في أسواق النفط العالمية وعام 2024 عند اغلاق مضيق باب المندب والخسائر الفادحة في قطاع النقل البحري.
امتلاك وتطوير الصواريخ الباليستية بات حاجة ملحّة لجميع دول العالم وستظل خيارًا مفضلًا للشرق، ليس فقط لتقليل الفجوة التكنولوجية مع الغرب، بل وسيلة دفاعية وسياسة ردع وورقة قوة في مواجهة ضغوط الغرب العسكرية والسياسية في الحاضر والمستقبل الذي سيشهد لاحقًا تطوّرًا غير مسبوق في هذه المنظومة وما يترتب عليها من إجراءات مضادة بإمكانها تغيير قواعد اللعبة في الصراعات الإقليمية والدولية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.