إسحق المساوي – خاص الناشر |
قد تكون “استراتيجية السلام أولًا” أعفت الإمارات من شهب ملتهبة سيَّرتها اليمن باتجاه المناطق النفطية السعودية، وقد تكون ذات الاستراتيجية -بمقاربة أخرى – جزءًا من ثارات البلدين العالقة حتى اليوم على الحدود والثروة والقيادة.
هذه خلاصة بحث طويل لعلاقة البلدين منذ نشأتا على أعقاب استعمار بريطاني، وبفارق زمني يصعب تدوينه بحسابات التاريخ. لكن الإمارات تحدثت عن 57 معركة “تاريخية” في مواجهة تمدد سعودي على أراضيها وثروتها، بينما تحدثت السعودية عن دولة ناشئة أرادت أن تزاحمها على الوصاية في المنطقة الخليجية والعربية والإسلامية.
عام 1810م، استولت الدولة السعودية الأولى على جزء من واحة البريمي، ومع رحيل الاستعمار البريطاني في 1968م، استولت السعودية “الثالثة” على أجزاء أخرى من البريمي داخل حدود ما عرف بعد أربعة أعوام من هذا التاريخ بالإمارات العربية المتحدة، وسط مزاج سعودي رافضٍ لهذا المولود الجديد الذي أعلن عنه عام 1970م.
سعت السعودية لإجهاضه، وتفكيكه، وتبديد طموحاته في أن يصبح كيانًا موحدًا مستقلًا، لولا أنها قبلت به أخيرًا، شريطة خضوعه لوصاية قسرية، وتجريده من عوامل المنافسة في القيادة والثروة؛ فقد ظلت السعودية تسعى لتفكيك الاتحاد، وتخاطب كل إمارة على حدة متجاهلة الحكومة المركزية، ومحرضة بعض إماراتها على الخروج، فاتجه الشيخ زايد آل نهيان مجبرًا لتوقع اتفاقية جدة 1974م لترسيم الحدود، متنازلًا للسعودية عن “حقل شيبة” ومضحيًا بـ “خور العديد” مقابل استعادة الإمارات واحة البريمي، والاعتراف بها كدولة فقط.
قبلت أبو ظبي بالمقاسات المحدودة لدولتها خوفًا من انهيار الاتحاد، وبالتالي ضمنت الرياض عبر اتفاقية جدة التمثيل الحصري لأطماع الاستعمار البريطاني والهيمنة الأميركية بلا منافس. بالمقابل اختزنت أسرة آل نهيان هذه الثارات مع الشقيقة الكبرى، متجهة نحو البناء والتنمية الاقتصاديين، بالتوازي مع بناء عسكري مدعوم أميركيًا وبريطانيًا، ومزود بمنظومة استخباراتية إسرائيلية، رافق ذلك تسويق المولود الجديد كدولة ليبرالية منفتحة في خارطة خليجية رجعية، إلى نهاية المسميات اللطيفة التي اقترنت بهذه الإمارات الزجاجية ذات “الخير” المطلق على أشقائها وأصدقائها فضلًا عن أبنائها!
بدا للإمارات بعد عقود من البناء أن بوسعها أن تلفظ من الأعماق ثارات لم تكن لتظهر قبل هذه التحولات الفارقة، فأعادتنا مجددًا لمربع الصراع الأول حول الحدود والثروة والقيادة، وبالتالي شهدنا مكائد ودسائس وحتى شتائم علنية تبادلها الطرفان من حين لآخر.
في 1995م، طالبت الإمارات بإعادة النظر في اتفاقيات جدة “الظالمة” لأنها أبرمت في لحظة ضعف، لكنها قوبلت برفض الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز. وفي 1999م لوحت الإمارات بالانسحاب من مجلس التعاون، احتجاجًا على التقارب السعودي الإيراني، فقوبلت أيضًا بسخرية الراحل سلطان بن عبد العزيز قائلًا: “الإمارات دولة نصف إيرانية”. وفي نفس العام قاطعت محفلًا سعوديًا نفطيًا لتدشين العمل على حقل “شيبة” الإماراتي قديمًا، فقوبلت بردود الإعلام القاسية.
وبصرف النظر عن الثارات التاريخية، وموازين الحق والباطل، وجدت السعودية في السلوك الإماراتي الجديد “تمردًا” على الوصاية التقليدية، قد يليه تدوير قيادة الخليج، كونها لم تكن حقًا أصيلًا لمخلَّف دون غيره من مخلفات الاستعمار.
تعززَ الاعتقاد السعودي أكثر بظهور وريث العرش الجديد محمد بن زايد، مندفعًا لتزاوج النيات المعادية للسعودية مع دوائر استخباراتية أميركية، أكد لها أن شعب السعودية “ينتظر دَفعة من أميركا لتغيير النظام”، وأن قادتها العجزة “لم يسمعوا عن الإنترنت إلا في سبعينيات أعمارهم”، وأن جيشه البالغ حينها 60 ألفًا “مستعد للاستجابة لأية دعوة من قِبل رجال الدين في مكة”. لكنه بالبداية فشل في اقناع الأميركيين بمبرراته المباشرة فضلاً عن مطامعه المواربة، نتيجة مبررات وقناعات أميركية مسبقة بوجوه السعودية وآلية حكمها قبل أن يخلق ابن زايد تقريبًا.
لقد زادت الوثائق -التي كُشفت لقادة السعودية قبل أن تُكشف للرأي العام – من حدة العداء بين البلدين وحقيقته، فالرجل الذي كانت مقاسات دولته مفصلة على هوى سعودي، ومطالب آبائه لا تتجاوز استعادة “حقل” صار اليوم يطمح إلى إعادة تشكيل الحياة السعودية وفق أمزجة إماراتية تضمر أطماعًا توسعية.
بالمقابل بقيت عقدة اتفاقية جدة التي قبلتها الإمارات البصيرة وذات اليد القصيرة، حديثًا يتكرر، ثم فعلًا طفا على السطح في 2006م بإعادة نشر خرائط ضمت المناطق المتنازع عليها، وهو ما واجهته السعودية بردة فعل تعيد للذاكرة القريبة بدايات حصار قطر الصغيرة، مع اختلاف نهايات الإمارات الكبيرة التي أُعيدت مجبرة إلى قفص الوصاية السعودية دون أن تحرز شيئًا، عدا عن المحاولات الفاشلة والفاضحة لنواياها فقط.
وعلى الرغم من استبدال التكتيك السلمي بنيران أطلقتها حراسة الحدود الإماراتية على مثيلتها السعودية في “خور العديد” عام 2010م، لم تستعد أبو ظبي حدودًا وحقولًا مستلبة، ولم يراوح فعلها حدود الفشل، ثم العودة إلى قفص الوصاية السعودية مجددًا، إذ ظل النزاع بين البلدين محكومًا بهذه القاعدة لعقود، وبالتالي أخفقت كل المساعي الإماراتية لاستعادة ولو جزء من كرامتها المهدورة على الحدود والحقول.
بعدها شهدت المنطقة حدثًا فارقًا أعاد تشكيل خارطة التحالفات على نحو غير متوقع؛ فتمكنت ثارات الإمارات من الولوج إلى السعودية بلباس التحالف بدلًا عن درع المعركة.
لقد مثل الربيع العربي مرحلة تحول جذرية في العلاقات السعودية الإماراتية، فالأعداء القدامى في مواجهة خطر مشترك، مضطرون للتحالف بما يفرض تجاوز الثارات القديمة. غير أن الإمارات لم تنس في الوقت نفسه الملف الحدودي في أبعاده الاستراتيجية، ولم تتخلَّ بعد عن طموحات ابن زايد الجديدة، في أن يصبح الممثل الحصري للهيمنة الأمريكية، والاطماع البريطانية، بدلًا عن “القادة العجزة” السعوديين على حد تعبيره وسخريته.
أولًا، تبوأت الإمارات مقعدًا يزاحم الوصاية السعودية على الخليج بفعل الخطر المشترك، وتمكنت -ثانيًا- من الانتقال إلى ثاراتها الأخرى بمسار تدرّجي، وتوقيت مواتٍ، وتكتيك لا يخطئ المهمة، وتمويه فاق قدرات الجيل الجديد في المملكة على اكتشافه.
بدأت الإمارات بلا رحمة مشروع ثاراتها القديمة، في ضرب مصدر الرؤية السعودية لصناعة القرار، عبر ذراع استخباراتية اخترقت الدوائر الإعلامية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والفكرية، والبحثية، حتى باتت السلطة على أغلب ما هو سعودي “إماراتيةً”. وبالتالي شهدنا تأثيرًا مباشرًا ملموسًا في الاتجاهات الرسمية السعودية، وتبنيًا حرفيًّا للاستراتيجيات التي تنتهجها أبو ظبي.
بموازاة ذلك عقد ابن زايد صفقات لشراء حصة النفوذ السعودية في مصر، وليبيا، والسودان، واليمن التي تغيرت فيها المعادلة تمامًا؛ فالسعودية أنفقت على مكاسب الإمارات، وبينما هي تخسر وتلاحق تبعات عدوانها عسكريًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، ثمة من يكسب ولم يلاحقه شيء.
وبالعودة إلى “استراتيجية السلام” هناك دلالة واضحة على أن من قدم لحماية الحدود السعودية ثم آثر السلام فجأة، لم يتناسَ بعد ثأر حدوده المتنازع عليها مع السعودية، وأن فاتورة العدوان المدفوعة من خزينة الرياض، ومن تدمير حقولها النفطية، قد يراها ابن زايد من باب اهدار ثروات شقيقته، وتبديد مصادرها، كبديل عن استعادة حقل “شيبة”.
من جانب آخر تستذكر الإمارات التدخلات السعودية لتفكيك الاتحاد، فأنتجت اليوم انقسامًا موازيًا في البيت العائلي السعودي الذي ظل متماسكًا لقرن من الزمن. وتدفع الإمارات ذاتها لإقصاء الفكر الوهابي السائد والساند منذ الدولة الأولى، ضمن تصفية الحسابات العالقة مع الوهابية التي حاربت طويلًا التوجه المذهبي الإماراتي الموصوف بـ “الاعتدال” كمشروع لتمكين دراويش السلطة من مقدسات المسلمين.
إجمالًا، لا يمكننا القطع بأن مصلحة إماراتية وحيدة عصفت بالسعودية، فالثابت أنها أدت الدور نيابة عن ثاراتها، وأصالة عن مخطط أكبر لتغيير خارطة الخليج. وبالتالي هل مشروع المصالحة الخليجية استفاقة سعودية متأخرة قد تفشل المخطط؟ وهل ذلك قد يعيق هدف الإمارات كممثل حصري للهيمنة الأميركية والأطماع البريطانية بدلاً عن السعودية؟
الإجابة حتى الآن بيد من يحسم أولاً.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.