لولا منصّات التواصل، قل التناقل الرقمي، لم يكن من الممكن أن يسمع المرء ببعض النماذج التي في العادة ينحصر حضورها وتواجدها في أماكن مخصصة لا يرتادها إلّا الباحثون عمّا فيها مهما بلغ صيت قذارته، ولا يتفاعل معها إلّا أشباهها أو المتقاطعون معها في صفة أو أكثر.. وبين الاعلام الذي تفّه رسالته حدّ الاستثمار بالبذاءة وأهلها، وتقنيات تناقل المقاطع ونشرها، إعجابًا أو استهجانًا، باتت هذه النماذج، وتحت مسمّى “الأعمال الكوميدية” و”الفن الحديث” تصول وتجول وتتغاوى بقبحها على مرأى حتّى من لا يريد رؤيتها.
تحت عنوان “stand up comedy”، راج في بيروت كما في الكثير من مدن العالم تقديم فقرات ضاحكة في المطاعم أو في المسارح، يقوم خلالها المؤدّي بتناول موضوع محدّد بشكل ساخر، والسخرية مساحة حسّاسة جدًا تتطلّب قدرات عالية من الذكاء لدى المعدّ بحيث عليه محاذرة الانزلاق بسخريّته حدّ انتهاك الآخرين كما اختيار المواضيع التي تلامس الناس، بل مواجع الناس وهمومهم من دون مسّ بكراماتهم ومعتقداتهم وحريّتهم؛ عليه الالتفات لمستوى اللغة وحدود المقبول في المجتمع الذي يعيش فيه، وكذلك عليه اختيار المصطلحات “ابنة بيئته” وليس تلك المنقولة أو المنسوخة عن أي عمل مشابه في مجتمع آخر أو بيئة أخرى. مراعاة هذه الشروط في صناعة قالب كوميديّ ساخر ليس بالأمر السّهل، وهي تتطلّب بالإضافة إلى الذكاء فهمًا جيّدًا للمجتمع وثقافته، أو ثقافاته، وموهبة تمثيلية وخفّة ظلّ: شاهدنا العديد من التجارب الكوميدية التي تراعي هذه النقاط سواء على شكل “ستاند آپ كوميدي” أو مقاطع مصوّة، على سبيل المثال لا الحصر، أبدع فريق “بالأملية” في هذه الصنعة، وكذلك شاهدنا “إياد وأبو إياد” في الكثير من المقاطع الكوميدية المدروسة والتوعوية الجاذبة.
بالعودة إلى النماذج التي تقدّم ما يمكن تسميته بكوميديا الانحطاط، انتشر خلال الأسبوع مقطعًا لمؤدية مقاطع ستاند آپ كوميدي تُدعى شادِن، تبلغ فيه حدّ “السخرية” من الدين والمتديّنين وتناول التعابير المرتبطة بالمقدّسات بأسلوب في من الهزل والتحقير ما يكفي ليُعدّ انتهاكًا لا يمكن تبريره أو فهم استخدامه؛ من دون أيّ سياق معتبر، تسخر المؤدّية بصوت تهكمّي من كلمات كتاب الله، تدفع الجمهور إلى التفاعل معها ويستجيب بشكل يضع جميع الحاضرين محلّ مساءلة أخلاقية وثقافية وقيمية.. وردًّا على هذا الانتهاك الفاضح، تقدمت دار الفتوى في لبنان بدعوى قضائية ضدّ المؤدّيّة شادِن فقيه كما أصدر دار الإفتاء الجعفري بيانًا بهذا الخصوص.. وبقليل من البحث، يتبيّن أنّ مادة شادِن فقيه المعتادة كوميديًا هي الحديث عن شذوذها الجنسي بكلّ تفاصيله، وأسلوبها بكلّه قائم على الألفاظ النابية والبذيئة، من دون أي سياق واضح أو حبكة. وهي ليست وحدها في هذا المجال الغريب، فقد رأينا خلال السنوات الأخيرة العديد من النماذج التي عملت على “مسرحة” البذاءة لتقديمها ككوميديا، واعتمدت على الانتهاك الفاضح للمقدسّات كما للقواعد الأخلاقية التي تحكم حياة المجتمعات، ولا نتحدّث هنا فقط عن المجتمعات المحافظة، بوصفها أكثر ارتباطًا بالقيم وبالقواعد الأخلاقية، بل عن المجتمعات الأكثر انفتاحًا والتي تتجاوز الكثير من القواعد الموروثة من دون أن تتخطّى المعيار الأخلاقي الخاص باحترام معتقدات الآخرين وتتعاطى مع موضوع “الحرية الشخصية” بشكل يكفل ألّا تتعدّى حريّات الآخرين.
هذه “الحريّة الشخصية” تحوّلت مع هذه النماذج إلى الشمّاعة التي بات كلّ شاذ، على أي مستوى من مستويات الشذود، يعلق عليها ارتكاباته المنتهِكة لكلّ حدود الأخلاق والقيم الإنسانية وليس فقط الدين والمقدّسات، دون أدنى فهم للفارق بين احترام معتقدات الآخر واعتناقها مرغمين، فيردّون على مطالبتهم بأن يحترموا ما نعتقد بأنّ حريّتهم الشخصية تكفل بهم ألّا يقدّسوا ما نقدّس! وحين تتحرّك ضدّهم الجهات المعنية قضائيًا، يغرقون في دور الضحية المطالِبة بالدّعم وبالتضامن، فيهبّ إليها جميع شذّاذ الاعلام والفنون والسياسة، ليتضّح المشهد أكثر: شاذّين وشاذّات في مشهد انحطاطي لا يُعرف له قاع!
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.