عقلانية سلوك “اليونيفيل” في جنوب لبنان وأسبابها

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

ملفتٌ موقف الناطق الرسميّ باسم قوّات اليونيفيل العاملة في لبنان “أندريا تيننتي” في إطار سلسلة من المواقف التي أطلقها في لقائه الأخير على قناة “الحرّة” بعد صدور القرار “2695” للتمديد للقوات الدولية العاملة في إطار الأمم المتحدة في جنوب لبنان، هذه المواقف التي أعلنها والتي اتصفت بالعقلانية على الرغم من بعض الملاحظات عليها والتي في بعضها تجافي الحقيقة والواقع اليومي لحياة الناس وعلاقتها مع تلك القوات المنتدبة إلى جنوب لبنان منذ العام 1978 وحتى يومنا الحاضر.

جاءت القوات الدولية بناءً على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 427، الذي اعتمد في 3 مايو 1978م بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1978م. وانتشرت تلك القوات في القرى والبلدات جنوب نهر الليطاني للإشراف على انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي. وتتالت قرارات التمديد لتلك القوات حتى تاريخ العام 2000 حين اندحرت “إسرائيل” وعملاؤها عن جنوب لبنان حيث أعلنت الأمم المتحدة التزام “إسرائيل” بتنفيذ القرار 425 بعد 22 عامًا من إعلانه وأكّدت الدولة اللبنانية في حينها أن “إسرائيل” لم تنفذ القرار بشكل كامل وبقي العديد من الأراضي تحت الاحتلال ومنها مزارع شبعا وتلال كفر شوبا والجزء الشمالي من الغجر ونقاط حدودية متعددة تم التحفّظ عليها.

من المفيد أن نذكر أن مجلس الأمن الدولي أصدر العشرات من القرارات قبل العام 1978 وبعده تطالب العدو الإسرائيلي بوقف اعتداءاته على لبنان والانسحاب من أراضيه المحتلة، ولم يلتزم العدو بأيٍّ من تلك القرارات وصولًا إلى القرار 1701 على إثر عدوان تموز في العام 2006 ، هذا القرار الذي لم يكن متوازنًا ومنصفًا في حيثياته ومضمونه والذي ساوى بين المعتدي والمعتدى عليه وأرست وقائع الميدان في تلك الحرب معادلات جعلت العدو الإسرائيلي يحسب ألف حسابٍ وحساب لأي عدوانٍ على لبنان في المستقبل.

في العودة إلى مواقف “تيننتي” التي أكّد فيها على عدم وجود أي تغيير في التنسيق مع الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني في نشاطات قوات اليونيفيل متجاهلًا الأخطاء التي ارتكبتها تلك القوات في سلوكها داخل القرى والبلدات في تجاوز مهماتها الموكلة إليها، هذه الأخطاء التي تسببت في إثارة حفيظة المواطنين الجنوبيين وجعلتهم ينظرون بعين الريبة لهذه القوات ومهماتها والتي أدَّت في العديد منها إلى صدامات مع الجمهور الغاضب الذي كان يقف مانعًا في انتهاك خصوصيات السكان وبيوتهم وقراهم، واستخدم “تيننتي” تعابير مجافيةً للحقيقة متناسيًا العديد من الحوادث الأليمة التي حصلت وكان ضحاياها مواطنين آمنين قتلوا وجرحوا إما برصاص هذه القوات أو دهسًا تحت آلياتها بسبب رعونة وحماقة بعض الجنود الدوليين واستهتارهم بأرواح الناس في حقولهم أو على الطرقات، ولائحة تلك الآلام طويلةٌ جدًّا، ومستذكرًا فقط بعض الأحداث التي لها ظروفها الموضعية ومطلقًا عليها تسمية “جرائم”، وفاته أنها نتيجة أخطاءٍ فادحة ومأساوية ارتكبتها تلك القوات في خروجها عن طبيعة مهامها الموكلة إليها.

ويكمل السيد “تيننتي” مواقفه ببعضٍ من العجرفة ومنها في عدم نيته التعليق على بيانات أفراد أو أحزاب سياسية متجاهلًا واقع الجنوب اللبناني وقواه السياسية الفاعلة فيه ونفوذها وتواجدها وبيئتها الحاضنة من الجنوبيين ومتغافلًا عن نصائح الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله حين قال معلِّقًا على قرار التمديد للقوات الدولية في جنوب لبنان: “أنَّ خلفية إجراء التعديل الذي يطالب به لبنان في قرار تمديد ولاية «اليونيفيل» لها «علاقة بالكرامة، وإلا هذا سيبقى حبرًا على ورق والناس في الجنوب لن يسمحوا بأن يُطبّق قرار بالرغم من رفض الحكومة اللبنانية”. وهنا ليت السيد “تيننتي” لا يخطئ بين الخطاب وانعكاسه على الواقع والذي سريعًا سيكتشف خطأ تقديره وضعف رهاناته عليه، وأن يحسن قراءة هذا الموقف المعلن بتواضعٍ والانتباه جيدًا لمضمونه وأن لا يخلط بين الاحتلال وأهل الأرض وأن لا يجافي حقيقة التاريخ والجغرافيا بين لبنان وفلسطين والحدود المرسومة بينهما وفق الخرائط الدولية وليصرُف جهده في مسألة إبقاء تلك القوات تعمل في إطار مهامها المرسومة لها دون تجاوزٍ لحدود هذه المهمَّات.
أمَّا العقلانية في تلك المواقف المعلنة فتعود إلى ما شهده الجنوب اللبناني منذ العام 1978م وشاهدته تلك القوات الدولية بعين “المراقب الأعور” فاقد الحيلة والمبادرة وتحوّلها إلى “شاهد زور” على عدوانية “إسرائيل” وهمجيَّتها ومكتفية بتسجيل الخروقات اليوميَّة للسيادة اللبنانية برًا وبحرًا وجوًّا وتعدادها فقط لقوافل العدو وجنوده وآلياته المجتاحة للبنان. كما وشهِدت هذه القوات الدولية على بأس الجنوبيين ومقاومتهم اليومية كالأسود في مواجهة ذئابِ الاحتلال الإسرائيلي وعملائه بكل عدَّتهم وعتادهم وتصدّيهم لهم وحمايتهم للأرض والعرض والسيادة واستعدادهم للتضحية والبذل والاستشهاد في سبيل كرامة الإنسان وحريته وطمأنينته وأمانه من الاعتداء والتجاوز ودحر العدو مهزومًا مذلولًا عن أرض الجنوب، وأنَّ عدم ممارسة الاستفزاز والعدوانية والالتزام بقواعد السلوك الإنساني والاجتماعي التي تؤكدها مضامين السيادة الوطنية عنصر أساس في استمرار دور هذه القوات ووجودها وحمايتها.

ختامًا لينصحْ أحدٌ ما السيِّد “تيننتي” في العودة إلى كتاب “كليلة ودمنة” الذي ألَّفهُ الحكيم الهندي “بيدبا” وترجمه “ابن المقفَّع” إلى العربية وليقرأ قصّة “الأسد والذئب والثعلب” الواردة فيه لأخذ العبرة والنصيحة، ولمزيدٍ من العقلانية والتبصُّر. ومختصر هذه القصة التي تحوّلت في المأثور الشعبي إلى “نكتة” مضحكة معبِّرة حول تغيير الموقف والانضباط في السلوك لدى الثَّعلب وأخذِه العِبرة والدرس سبَّبتها ضربةٌ قاضيةٌ نالها الذِّئبُ من الأسد أطاحت به معلَّقًا فوق شجرةٍ وخلاصتُها يسألُ الأسدُ الثعلبَ: من أين لك كُلُّ هذا الفهمِ والذَّوق؟ فأجابه الثعلب دون تردُّد قائلًا: سيِّدي الأسد، لقد تعلّمتُ من ذاك الذئب الذي علَّقته فوق، واللبيبُ من التعليقِ يفهمُ.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد