غادر حاكم المصرف مركزه إذًا. ثلاثون عامًا مضت على توليه حاكمية مصرف لبنان بدءًا من عام 1993 لغاية عامنا الحالي. ثلاثون عامًا مرت خلالها الليرة اللبنانية بدورة حياة كاملة متكاملة، من النمو والازدهار إلى الانهيار العظيم غير المتناهي، والذي أثبت فعلًا أن الليرة لم تكن يومًا “بخير”.
خرج رياض سلامة على أنقاض قطاع مالي ومصرفي منهار، خرج ولم يرف له جفن لما حدث ولما سيحدث لاقتصاد هذا البلد. كيف لا، وهو الحاكم الآتي والراحل “بأمر السلطة”، والعامل بخدمتها وتحت حمايتها، وهي التي دفعت بالبلاد والعباد للفقر والانهيار.
ثلاثون عامًا من الانهيار “المؤجل”
“واحد من أفضل المصرفيين في العالم”، هكذا كان يلقب رياض سلامة في الفترة التي سبقت عام 2019، حيث اعتبر لعقود من الزمن حافظًا لاستقرار الليرة اللبنانية ومنقذًا لها، وقام بتثبيت سعر الصرف على 1520 ليرة للدولار الواحد، واصفًا الخطوة بأنها تخلق استقرارًا معيشيًا، في ظل وجود احتياطات مهمة بالدولار الأميركي لدى المصرف المركزي.
هذا اللقب الممنوح لحاكم مصرف لبنان السابق، تبدّل فعليًا مع حلول العام 2019، ليحلّ مكانه لقب “شريك الفساد والانهيار” لأسباب عديدة وواضحة تتعلق بسياساته وأساليبه “المشبوهة”، التي كان أبرزها “الهندسات المالية” التي أوصلت -بمشاركة السلطة- البلاد إلى هذا الانهيار الكارثي.
انخرط “الحاكم المنقذ” منذ عام 2016 بهندسات مالية هدفت وفقًا له ” للحفاظ على قيمة العملة الوطنية ورفع احتياطي المصرف المركزي” ، هندسات أتت بغطاء سياسي تام أدت في نهاية الأمر إلى الانهيار ودخول لبنان في أزمة اقتصادية غير واضحة النهاية.
وبحسب خبراء مصرفيين، فإن هذه الهندسات المالية كانت تهدف فقط لكسب الوقت وتأجيل الانهيار، ولم يكن من المفترض أن يقوم سلامة بتنفيذها في ظل وجود طبقة سياسية فاسدة لا نية لديها لتطبيق أي سياسات إصلاحية في هذا البلد.
إضافة إلى ذلك، فإن سلامة كان قد خالف القانون في مواضع عدة، وأحدث سلسلة من الإخفاقات الكارثية للقطاع المصرفي كان أبرزها مخالفته لنظام المصرف المركزي، وإخفاقه في السيطرة على التخضم، وفي الحفاظ على أموال المودعين في المصارف اللبنانية، والأهم إمعانه في إقراض الأموال لخزينة الدولة الخاضعة لسلطة الفساد والمحاصصة.
وفي هذا الإطار أيضًا، فإن أحد أهم الإخفاقات كان بعدم قدرة الحاكم السابق الحفاظ على ثبات سعر صرف العملة الوطنية عند سعر الـ1500 للدولار الواحد، مما يشير فعليًا إلى أن هذا الثبات في سعر الصرف كان وهميًا، ولم يكن مبنيًّا على قواعد اقتصادية حقيقية صلبة.
ماذا بعد خروج سلامة؟
انتهت ولاية سلامة، خرج من قصره كما لم يدخل إليه، والفارق هنا أنه دخل ملكًا وغادر فاسدًا مباركًا محميًا من سلطة شاركته بكل أحداث فساده. مغادرة سلامة كانت على وقع سلسلة من التحقيقات القضائية اللبنانية والخارجية في العديد من قضايا الفساد وغسل الأموال التي وجهت إليه، والتي لا زال هو لغاية الآن ينفي ضلوعه بها.
مع انتهاء حاكمية رياض سلامة لمصرف لبنان وفي ظل عدم تعيين حاكم جديد، تولى نائب الحاكم الأول وسيم منصوري مهامه بصورة مؤقتة، وقد أوضح في مؤتمر صحافي عقب تسلمه لمنصبه أنه “لن يتم التوقيع على أي صرف لتمويل الحكومة إطلاقًا خارج قناعاتي وخارج الإطار القانوني لذلك”. وأضاف منصوري أن “المجلس المركزي في مصرف لبنان أصدر قرارًا يمنع المساس بالتوظيفات الإلزامية عام 2021، واكتشفنا قناعة لدى السلطة السياسية أن لا نية لديها للإصلاح”.
وفي هذا السياق تمنى وسيم منصوري على السياسيين تحييد التجاذبات السياسية عن السياسة النقدية، قائلًا: “أتمنى أن نتوافق على إخراج كل ما يتعلق بالسياسة النقدية بالتجاذبات السياسية”، وتعهد منصوري ختامًا بالشفافية الكاملة في عمله والإصرار على رفع السرية المصرفية عن الجميع.
وتجدر الإشارة أن النائب الأول توجه للشعب اللبناني، بالقول: “أعتذر منكم، لا يمكن للمصرف المركزي رسم السياسة النقدية والمالية، ويجب التعاون مع الحكومة والبرلمان ولا يمكننا تغيير الوضع الحالي بمفردنا”.
هذه التصريحات الصادرة تعيد تأكيد المؤكد، وهو أن مصير هذا البلد مرتبط أولًا وأخيرًا بسياسات الإصلاح الجذرية المطلوب تنفيذها، لكننا في ظل السلطة السياسية الحاكمة لا يبدو الأمر ممكننًا أو متاحًا، مما يعني أن سكة الانهيار مستمرة دون نهاية محددة أو واضحة.
مصير هذا البلد مرتبط أيضًا بمصير حاكم المصرف السابق، وبالتالي بنتيجة التحقيقات اللبنانية والأوروبية المرتبطة بهذا الأخير، ولعل نقطة بداية الإصلاح الحقيقي تكون لدى القضاء اللبناني قبل أي جهة، والمقصود طبعًا هو القضاء المستقل النزيه القادر على تطهير الدولة بكل مؤسساتها من الفساد والفاسدين، وهنا يكمن أمل اللبنانيين الوحيد في إنقاذ ما تبقى لهم من بلد .
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.