حيدر الموسوي – خاص الناشر |
لا يخفى على أحد أن هذا العصر هو عصر التجارب، عصر الإحصائيات والأرقام. واقع اليوم مرتبط بشكل مباشر بالتأثير الذي تركته المدرسة الوضعية في مختلف العلوم وطرائق التفكير الإنسانية. النقاش في جدوى أي قضية مرتبط بانعكاسها في عالم الواقع، بالنتائج التي تخلّفها ومدى فائدتها. إذًا فالحس والتجربة هما الحاكمان الأساسيان في الحياة الاجتماعية والسياسية العالمية.
قيمة المشروع مرتبطة بالقدرة على تجسيده
من هنا فإن أي مشروع سياسي أو ديني إذا ما أراد تقديم نفسه للناس فعليه البحث عن أجوبة “الأرض”، أن يستعد للأسئلة اليومية التي تفرض نفسها في عملية المساءلة، فسؤال الناس لأي مشروع يُطرح اليوم هو ماذا ستقدم؟ وليس ماذا ستردد وتقول. الكلام والتنظير أخذ حيزًا في تاريخنا المعرفي، لكن المسار التاريخي يوضح كيف أن الغلبة أصبحت للتطبيق على حساب التنظير. أنا لا أدافع هنا عن هذا الاتجاه لكنني أقول إنه هو المستحكم اليوم بزمام الأمور، هذا هو نمط تفكير مئات الملايين من الناس حول العالم.
أين موقع الدين في هذا الصراع؟
بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، ظهر تيّار عالمي يدعى تيار “الإلحاد الجديد”، أبرز أفكار هذا التيار هو إنكار وجود الله. في نفس الوقت يقول أتباع هذا التيار: “لو فرضنا أن الله موجود، ماذا يمكن أن أستفيد من وجوده؟ أين الترجمة العملية لوجوده؟ إلى أين وصل دعاته؟ كيف تعيش مجتمعاتهم؟ أين الطمأنينة التي يتحدث عنها دعاة الدين؟ إذا كان وجود الدين في حياة الناس راحة فلماذا كل هذا التناحر؟ إذا كانت مهمة الأديان هي توحيد الناس فلماذا نرى هذا الشرخ بين أتباع الأديان والمذاهب والمرجعيات على اختلافها؟
الصورة الذهنية للدين والمتدينين
كان للحرب الحاصلة في منطقتنا والتي أخذت بعدًا طائفيًا في الإعلام العالمي تأثيرٌ سلبي في تعميم صورة سوداوية للدين والمتدينين على حد سواء. فالصورة الذهنية تُصاغ من خلال محاكاة التجربة الحسية أي مما يراه الإنسان ويسمعه ويجرّبه. وهذا هو حال اللاديني الذي شاهد المجازر بين أبناء الدين الواحد حيث أصبح المتدين في خيال الملايين عبارة عن قاتلٍ قامعٍ معقد، يتربّص الفرصة كي يصفي حساباته مع من يختلف معهم حتى لو كانوا نساءً أو أطفالًا.
القدرة على الإقناع مرتبطة بالقدرة على استحضار النموذج
للإجابة عن الأسئلة المطروحة اليوم. يجب أن لا نكتفي بترداد جملة “إن سوء التجربة ليس دليلًا على بطلان النظرية” فهذا لم يعد مقنعًا لأغلب الجماعات البشرية. الردّ على مثل هذه التساؤلات يجب أن يكون منوطًا بتجارب إنسانية دينية تحمل القيم التي تبالغ في الحديث عنها، فتعكسها على أرض الواقع.
من دون شك هذا هو المسلك الذي يجب أن تتبناه أي جماعة، لأن المواطن المصريّ اليوم على سبيل المثال حين يحاكم جماعة الإخوان المسلمين فإنه لا يناقشهم (في الأعم الأغلب) بنظريات سيد قطب وحسن البنّا، بل يحاججهم قائلًا: “لقد قرعتم آذاننا بالقول إن الإسلام هو الحل، وها قد تسلمتم الحكم فأين الحل الذي تتحدثون عنه؟”. ولو كان الأمر معكوسًا وكانت تجربة الإخوان المسلمين في الحكم ناجحة رشيدة، لأغفل عموم الناس النقاش في النظرية لأن النظرية أثبتت صحتها بالدليل الحسي، وعلى ذلك قس.
كيف يمكن أن نعمّم نماذجنا الناجحة؟
في البداية وقبل الحديث عن الجانب التطبيقي تجدر الإشارة إلى فكرة مهمة في المجال التنظيري وهو وجوب خروج الجماعات الدينية من منطق التعصّب والتعسّف وربط الدين بمقولات علمائها ومنظّريها فقط. يجب أن تنتشر ثقافة “هذا اجتهادي من الدين”، بمعنى أن أي عالم أو باحث يجب أن يتواضع في تعامله مع نتائجه، وأن يقدّمها على أنها مجرّد اجتهاد قابل للنقاش والنقد. فحين تنتشر مثل هذه الثقافة تتعمم فكرة أن الدين ليس توقيفيًا على شخص بذاته وبذلك يتريث الناظر إلى الدين في الحكم عليه.
أما في الجانب التطبيقي فهناك نقطتان أساسيتان في تعميم النماذج الناجحة:
الخطوة الأولى: العمل على التنقيب وإحصاء التجارب الجهادية، الأسرية، الاجتماعية والعلمية الناجحة في محيطنا الديني.
الخطوة الثانية: البحث عن قوالب إعلامية لنشر هذه النماذج موازية في التأثير لتلك الحملات الإعلامية التشويهية.
بطبيعة الحال فإن الموضوع المتناول في هذه المقالة لا يمكن اختصاره بهذه الصورة وهذه العجالة، فهذه القضية يجب أن تطرح على مستوى الأمة من أجل الوصول إلى محاكاة جذرية للمسألة الدينية في عصر أصبح فيه الحكم على الدين منوطًا بالتجربة والنموذج.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.