بين طرقات مخيم عين بيت الماء، في نابلس، ترجل محمد ندى ظهر اليوم 26 تموز/ يوليو لمواجهة قوات الاحتلال التي تسللت إلى المخيم قبل أن تقتحمه وترتكب جرائمها فيه، وتغدُر بمحمد بعدة رصاصات وجهها الجند صوب صدره، لتسيل دماؤه هنا في المخيم قرب الجدار الذي كان يستيقظ محمد لرؤيته حيث يتمعن في رسم لحنظلة خُطّ فوقه عائدون.
لم يتوانَ محمد يومًا وفقًا لما قيل فيه عن حماية أرضه، فما أن سمع نبأ تسلل قوات خاصة إلى العين دفعها العدو بتعزيزات “عسكرية” لمحاصرة منزل المطارِد نور البسيوني بغية اعتقاله، وارتكاب جرائم في المخيم عقب اقتحامه ومحاصرته، حتى كان محمد بين رفاقه المقاومين في مقدمة مواجهة ترسانة المحتل الصهيونية الإرهابية، لينتهي الأمر بتحقيقه لأمنيته في الشهادة التي طلبها مرارًا خصيصًا بعد ارتقاء أقمار كانوا أصدقاءً له كالبطل حمدي شرف الذي مكث محمد في صالون الحلاقة الخاص به ليظل ذكره حاضرًا، وها هو اليوم يلحق به، ويفي بوعده لوالدته بأنه سيستشهد ويشفع لها ليصحبها إلى الجنة برفقته.
إعدام محمد يأتي بعد نحو 24 ساعة من إقدام المحتل على جريمة اغتيال المقاومين الثلاثة عند قمة جبل جرزيم جنوبي نابلس، حيث قارعوا العدو حتى ارتقوا أبطالًا مشتبكين لآخر رمق وهبه الله لهم بعد أن أطلقوا لدمائهم العنان لتُغطي طرقات الأرض وجدارها وهي تواسي ذويهم على فراقهم، إذ ضمّ أحدهم قميص الشهيد ليستنشق دماءه الطاهرة، وآخر أخذ يتلمس دماء الأبطال الثلاثة التي زينت المركبة فألقى نظرته الأخيرة عليها وصدح بالعبارة التي دوّنت على نمرتها “صاحب العريس” ليصمت ويعود ليقول لا عرس هنا لسواكم أيها الرجال الثلاثة، زفي يا نابلس أقمارك سعد الخراز، ومنتصر سلامة، ونور العارضة، ولا تجزعي فقد سددوا ثأرهم قبل اغتيالهم حيث استهدفوا موقعًا لجند العدو وأوقعوا إصابات بينهم، وذلك قبل أن يباغتهم العدو بآلة حربه العسكرية مستهدفًا اياهم بوابل من الرصاص أطلقها نحوهم ومركبتهم من مسافة صفر؛ حيث اشتبكوا مع جنده، كما أسلفنا الذكر، لحين تحررت أرواحهم وهي تصعد إلى الله من أجسادهم قبل أن يعتقل جثامينهم المحتل خشية أن يعودوا ليذيقوه الويلات مرة أخرى، بوقت لا يستطيع فيه مواجهة أرواحهم كما كل أرواح الشهداء التي تتوعدهم بعذاب أليم وتقاتلهم من عليين وهي في حماية الله.
إلى ذلك قد اختلطت الدموع بالتهاني في نابلس جبل النار وهي تزف شهداءها، فوالد سعد الخراز، شرع باستقبال المباركات باستشهاد نجله، رافضًا قبول أي تعزية ليقينه بأن ابنه حي، وهو يردد الآية الكريمة “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون”.
كذلك أعرب عن سروره بنيل ابنه الشهادة التي تمناها، وأخذ يدندن تلك الكلمات من أغنية “رجع الخي” اعتزازًا بسعد ” خبرونا ياللي كانوا قالوا كان سبع بأوانه على الأعادي بنيرانه يشويهن شي (..)”.
حدث ذلك بالتزامن مع تلقي والد منتصر سلامة أيضًا التهاني بارتقاء نجله، الذي كان يجلس برفقته والعائلة على مائدة العشاء قبل ليلة واحدة، دون أن يظهر لأحد أنه في صدد تنفيذ عمل مقاوم مع رفاقه، كما شدد بهجت الذي أكد انتصار نجله المنتصر فقد قال “ليس خسارة فهو عند رب العالمين، والوطن يريد رجالًا، وتضحيات كي يعود”.
أما والد نور العارضة فكان في انتظاره في سماء الله، حيث كان يسير في الطريق إليه وفقًا لوصيته التي جاء بها “أبي، أنا في الطريق إليك سنطوف في جنان الحق سويًا إن شاء المولى، وسأحدثك عمّا جرى من بعدك لكن بعد احتضانك..”.
ولم ينسَ نور والدته التي أوصاها بعدم “ذرف دمعها الثمين لأنه سيكون عند رب السماوات والأرض دون حزن أو ألم” برفقة أقمار نابلس الذين سبقوه إلى السماء حيث وعد شقيقه الأسير أحمد العارضة بلقائه في هذا المكان الطاهر بعد عجزهما عن الالتقاء على الأرض، إذ وجه له تلك الكلمات في وصيته “أحمد العربي، الأسير الحر رغمًا وعزمًا، يعجز اللسان ولغته، وأحرف أبجديته عن وصف ما بقلبي لك، فإن بخلت الدنيا علينا باللقاء هنا على أرض فلسطين، فسيكرمنا الله الملتقى بالتي هي أعظم، وأبقى”.
وكان لأسود العرين كلمتهم أيضًا؛ إذ زأرت تلك المجموعة المقاومة وهي تعلن أن الأبطال الثلاثة هم جندها المجهولون، وهي تزفهم بمزيد من الفخر والاعتزاز والإجلال؛ بأحرف تسمع من خلفها صوت الطلقات وهي تنذر بانتزاع ثأر المقاومين الثلاثة، الذين كمنوا للمحتل، واشتبكوا معه، دون ذرة خوف، فمنذ “متى يخشى المنايا مريدها” كما نشر نور في وقت سابق.
والملفت هنا أن ارتقاء الأبطال الثلاثة جاء بعد يوم واحد من ذكرى مرور عام على استشهاد المقاومَين البطلين، اللذين ما تزال تبكيهما حارة الياسمينة حتى اللحظة وتروي وصاياهما، وهما مؤسس العرين محمد العزيزي وعبود صبح.
ونهاية أقول إنه في حضرة الحديث عن الشهداء المقاومين، لا يوجد حيز للتحليل والتنظير، فيما إذا كان الرجال الثلاثة قد خططوا لعملهم المقاوم بوجه العدو، وإن كان في البلاد المحتلة أبطال مثلهم يعدّون لجنده حتى إبادتهم جميعًا في القريب العاجل؛ كون المقاومة أمرًا طبيعيًّا وهي ممتدة عبر التاريخ ولم تتوقف يومًا منذ عقود عن ردع المحتل الصهيوني، فانتزاع الثأر فرض في البلاد الطاهرة، والمقاومة حاضرة دومًا، وأبطالها يحترفون تحديد الزمان والمكان لإذلال العدو حتى دحره وكيانه الغاصب من كل الأراضي المحتلة.
وإن الأحرار لا يضلون بوصلتهم، ويمضون على درب المقاومة، وهذا ما دعا إليه نور في ختام وصيته قائلًا “اتبعوا من توضأت أيديهم وشمروا عن سواعدهم في سبيل المقاومة، فهم الطريق إلى فلسطين كاملة مستقلة، ومستقيمة، ومطهرة من دنس الصهاينة”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.