قافلة اعلاميين انطلقت من بيروت ووجهتها المعسكر، فقد دعت العلاقات الاعلامية في حزب الله وسائل الإعلام إلى أحد معسكرات المقاومة في الجنوب بمناسبة عيد التحرير.
قد تختلف دوافع الذهاب باختلاف خلفيات الذاهبين. مضى البعض لتمثيل مؤسّسته الإعلامية في هذا الحدث الذي أقل ما يقال فيه إنّه آسرٌ لكل عيون الدّول المحدّقة بالمقاومة، والبعض حبًّا خالصًا، والبعض على سبيل تغطية الحدث بقلب محايد، والبعض بداعي الفضول. لكلّ منّا قلبٌ يختلف عن سواه في النظر ناحية توقعاته حول الرحلة.
سارت القافلة عبر الطريق التي كلّما اقتربت من منتهاها ازدادت سحرًا وعلوًّا، ليس بالقياسات الجغرافية فقط، بل بامتزاجها بحكايا المقاومة وبحفظها لرائحة الذاكرة التي تجمع بين القهر وبين الفرح. الوجوه في الباصات لم تزل محافظة على خلفيات أصحابها وتعكس انطباعاتهم الأولى حول المسار؛ منهم من يزور المنطقة لأول مرة، ومنهم من يعرف المنطقة وتعتريه اللهفة للوصول، ومنهم من يستعجل وصلًا طال انتظاره. وجوه متعارفة، وأخرى تستلقي على المشهد الجبليّ الفتّان. ولكلّ منها ملامحها وما تقول.
عند باب المعسكر، شيء ما حلّ على كلّ الوجوه، زاد في رقّتها وفي تماهيها مع المشهد؛ ربّما هو فيض الحنان السيّال من صور الشهداء، أو رهبة الدخول إلى عالم كلّما ظننّا أننا نعرفه أدركنا صغر ما نعرف مقابل حجم أسراره وعمقها، أو الأمان الذي لا يمكن توصيفه بالكلمات، يُحسّ فقط، وربّما لا يُحسّ مثيلٌ له في أيّ مكان آخر في الدنيا، لا يُحسّ إلّا عند بوابات المعسكرات.
دخل الوفد، قلْ عبر من الدنيا إلى هناك، حيث كلّ حبّة غبار تكاد تنطق من فرط امتلائها بحكايات المقاومة. موسيقى الاستقبال ترفع منسوب الرهبة، تُدخل القلب في عالم آخر، وتتركه أمانة لدى الوجوه الملثّمة التي من خلف لثامها تنضح بالعزّة وبالحبّ. صوت عريف الفعالية يدعو الجميع إلى أخذ أماكنهم، يمتثل الجميع. دقائق بدأت بعدها مختلف المشهديات الحيّة. صوت الطلقات يختلط بصوت المسيّرات وبشهقات القلوب. مزيج مؤنس بشكل يحيط بروح الحاضرين. لا ضجيج في صفوف الحضور المحدّقين بوله ناحية “الأرواح لي بتقاتل” بقدرات بدنية عالية، مذهلة وبتقنيات وعتاد يرهب العدى، ويبثّ أمانًا هائلًا في كل القلوب الحاضرة، حتى تلك التي ما مسّها عشق المقاومة.
وحين بلغ العرض اقتحام المستعمرة، شوهد دمع متناثر في أرجاء أعين الجمهور. يا رباه.. ما يحدث حقيقي جدًا، وصادق جدًّا وواقعي جدًّا، لا يشوبه مستحيل وليس بيننا وبينه إلّا القليل فقط، كالمسافة الفاصلة بين الأعين الغارقة في ما تراه وبين صورة الحاج عماد التي ارتفعت لتقول لمن لم ينتبه بعد إنّه هنا، حاضرٌ بيننا، نسمع توجيهاته، صوت خطواته، وأنّا كنا نراه، حقًّا نراه.
حاضر وها هو سلاحه الشخصي يُهدى إلى قوّة الرضوان، ليقول إن هذه القوّة هي بعض من روحه، وإنّها بعض من جميل ما صنع، وإنّ عديدها أبناؤه، وإنّه حاضر ليس يغلبه الغياب.
انتهت الرحلة بعد كلمة السيد هاشم صفيّ الدين. غبار المعسكر عالق على الثياب والوجوه. لا أحد يرغب بغسله. يحتفظ كلّ حاضر به كمن التصقت به فراشة تترك في قلبه انتظارًا لبشرى، وكمن سُكب على وجهه ماء طهور تلت عليه الجدات أجمل أدعيتهنّ. يقف الحاضرون، بعضهم يتبادل انطباعاته مع آخرين، وبعضهم شاردٌ في كلّ تفاصيل المكان، كمن يملأ عينيه بكلّ ما استطاع من صور كي لا تغادره الانطباعات حين يغادر.
يخطر ببالك أن تمرغ وجهك في التراب هناك، أن ترتمي فيه وتبكي ذخيرة دمعك كلها، أن تطلب من القيّمين أن يتركوك هنا قليلًا بعد لأنّك لم تشبع من رائحة البارود الثوريّ ومن عبق المعسكر. ثم تنتبه أن لن تشبع، وأنّ النظر في مواضع خطوات رجال الله، من استشهد منهم ومن ينتظر، ماء كلّما شربت منه ازددت عطشًا وعشقًا وكرامة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.