على أثر هيمنة أميركا وتفرّدها بإدارة النظام العالمي، سادت تنظيرات نهاية التاريخ، وسقوط الأيديولوجيا، والأحزاب المنظمة، وسيادة الاقتصاد الحر والليبرالية الهمجية، وتمّت عملية ضخها وتسويقها بقصد وعن سبق تصوّر في عملية تشويه منظمة وبدأب وبأكالف مهولة، لإحداث أنماط من الدول والحركات السياسية والنقابات والتشكيالت الاجتماعية والمعارضة واللوبيات، بما يخدم القوة المهيمنة والساعية بعدوانية لتعميم نموذجها وثقافتها واقتصادها وانماط حياتها على الجميع وبكل الوسائل.
فظهرت بديلًا للأحزاب والنقابات واللوبيات المنظمة والممثلة لمصالح قطاعات اجتماعية منظمات المجتمع المدني والـngos الهلامية وغير المنظمة وغير المنسجمة وغير المحددة ببرامجها وتمثيلها لقطاعات وجماعات مجتمعية واجتماعية، ولعبت تلك الجماعات اللقيطة والمصنّعة أدوارًا محورية في قيادة الثورات الملونة، وتحقق للجهات التي مولتها وأدارتها مكاسب جمة في دول الاتحاد السوفيتي السابق وفي أميركا اللاتينية والكاريبي وفي العرب بما سمي بربيعهم الأسود.
ولتعزيز دور تشكيلات الـngos نشطت تنظيرات الثورات بلا قيادات، وقد شهد لبنان والعراق والسودان واحدة من تلك الثورات الملونة والتي أصر المؤثرون فيها على منع تشكيل مجموعات عمل منظمة وكتل تاريخية حاملة لمشاريع التغيير الجدي، وعُممت مقولة أن “الثورة لا تحتاج الى قيادة وتنظيم وتحالفات وإدارة” ، فانتهت الى عدد من النواب في البرلمان ويس فيهم أو منهم تغييري واحد، ونسبت أطراف سياسية في المنظومة لنفسها دورًا قياديًا في ثورة ١٧ تشربن ٢٠١٩، وكذا في العراق.
على ذات النسق، ظهر في الواقع المعاش لعدد من الدول ظاهرة الدول بلا حكومات، كمثل ليبيا، السودان، العراق، لبنان، أفغانستان، والصومال، وأُديرت البلاد لحقب طويلة بلا حكومات وعبر أدوات ومؤسسات ومافيات تنتمي الى ما يسمى في الإقتصاد الحر “اليد الخفية”، في ظاهرة تتنافى مع تعريف الدول، ومع تقاليد المجتمعات منذ انتقلت البشرية من المشاعية الى العبودية والتشكيلات الأخرى وصولًا للرأسمالية والليبرالية.
لماذا ثورات بلا قيادات، ودول بال حكومات؟ وهل الأمر بريء أو هو نمط جديد لتشكل الدول والهويات والنظم؟
في واقع الحال، كل الثورات التي جرت بلا قيادات انتهت إلى تحويل المجتمعات للفوضى والاحتراب الأهلي وعودة المجتمعات الى هوياتها المؤسسة؛ قبائل وطوائف وأديان، وتصارعت، بينما اليد الخفية حكمت واستثمرت ونهبت الثروات والودائع والمدخرات وحولت المجتمعات الى جمهور متسول جائع يفتقد أبسط الحاجات الحياتية، فدولة كالعراق بلد
الثروتين المائية والنفطية صار بلا ماء وبلا كهرباء محروقات، بينما نُهبت منه ثروات واموال تزيد عن ٢ تريليون دولار ولم تبنَ فيه مدرسة أو مشفى أو جسر أو طريق.
الأمر ذاته في ليبيا وفي لبنان الذي نُهبت ودائع المصارف والنقابات والبلديات والضمان وتعويضات المتقاعدين، وأُديرت الدولة ومازالت بالفراغات والفوضى.. هكذا نعرف بأن إدارة الدولة بالفراغات وبلا حكومات لم يكن أمرًا عابرًا ولا
عفويًا، إنما مخطط تقف خلفه جهات ويد خفية ولوبيات نصب ولصوصية تعمل عند قوى خارجية ولتحقيق مصالحها.
إذًا؛ هناك من يدير ويسيّر الأمور ويؤمّن فرص النهب والاستئثار، وهو ذاته اليد الخفية، وهي مجسّدة بأدوات وعملاء
ووكلاء لا شركاء القوى المهيمنة عالميًا والتي أشاعت عن قصد وبالقوة وبمختلف الوسائل والحروب أنماطها وثقافاتها وقيمها، فاليد الخفية التي تدير الثورات بلا قيادات والدول بلا حكومات هي أجهزة الأمن المتحالفة مع المافيات واللصوص،
وتُدار وتُوَجه من السفارات، على رأسهم السفارة الأميركية وفي لبنان يبدو النموذج واضحًا وساطعًا لا يخفى على عاقل ومتبصر.
أما والقوة المهيمنة عالميًا وإقليميًا بدأت تنحسر، ويسقط نموذجها وتسقط قيمها وأنماط حياتها، فماذا عن الثورات والدول؟ هل تستمر على ما أرادته السياسات التدخلية الأميركية؟ وهل تتحول انماط الثورات البلا قيادات والدول البلا حكومات حقائق ووقائع تعاش في المستقبل؟
واقع الحال ينفي تلك الإمكانية، والتجارب تستوجب العودة الى مسارات الأزمنة وحاجات التاريخ ومستلزمات الجغرافية
وتلبية حاجات البشر، وكل هذه تقتضي ثورات بقيادات وبنظريات وبمؤسسات وقوة منظمة، ونموذج المقاومة الإسلامية وايران وسورية المنتصرة في الحروب الكبرى والعالمية العظمى، والتجربة الصينية شديدة المركزة والتدخلية للدولة والحزب والحكومة والتخطيط والإدارة والإشراف والمركزية شواهد قاطعات على أهمية التنظيم والإدارة والقيادة.
والحكومات في الدول لتأمين وتنمية المجتمعات وتلبية الحاجات، غير أن ما تحقق في واقع الدول التي ضربتها كوارث الدول بلا حكومات والثورات بلا قيادة تفيد أيضًا بأنها مجتمعات وجغرافيا ونظم فقدت دورها الوظيفي وانتفت
اسباب استمرارها، وتبدو “إسرائيل” أحد نماذج افتقاد الدور الوظيفي.
وفي سياق التحولات العالمية والإقليمية ومفاعيل الثورة
التقنية الرابعة وجائحة كورونا وثورة الذكاء الاصطناعي، تحتاج تلك الدول والمجتمعات الى إعادة هيكلة جغرافيتها ونظمها، فلم تعد الحياة البشرية وتأمين الحاجات تتسع لنظم وجغرافيا ودول وثورات مصنّعة لتخديم مشاريع أميركا وعالمها الإنكلو ساكسوني الذي غربت شمسه ويتراجع سريعًا ويعاني من أمراض الشيخوخة وأعراض الموت.
فالحاجات والتطورات ذاتها تفترض من الدول التي أُديرت لزمن بلا حكومات، وللدول التي ضربتها الثورات بلا قيادات، أن تندمج أو تلتحق أو تتشكل في جغرافيا وبنى اجتماعية جديدة وإعادة تصنيع نظمها على توازنات وبقواعد لتخديم مهام من طابع جديد. فقد حكمت التجربة الإنسانية ومراحل التطورات البشرية والتشكيلات الدولتية بأن لا مكان للدول والنظم والجغرافيا الصغيرة والمصنّعة لخدمة الآخرين والخارج، والمحدودة والمنغلقة ولن تنجح ولن يكتب لأصحاب دعوات التقسيم والتفتيت وتصغير المقسّم وتفتيت المفتت من مكان أو زمان أو قدرات لإنفاذ مشاريعهم الواهمة والعتيقة.
فحاجات الأزمة وحركة التاريخ وآليات توليد المستقبل، لن ولا ترحم وستفرض نفسها بقوة القانون والحاجة وتسحق من
يعاندها.
إن زمن سقوط الإيديولوجيا، ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات قد ولّى، وزمن عودة البشر إلى قواعد وقوانين وقيَم
انتظامهم وتأمين حاجاتهم وحقوقهم قد دنت. وللتطابق مع الأزمة والحاجات باتت الضرورات تلح لإعادة صياغة الدول
والمجتمعات على قيَم العصر وحاجاته، وإنتاج الحكومات والثورات بإنتاج النظريات الثورية والقيادات والأحزاب
والتشكيلات التاريخية المناسبة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.