منذ أشهر، وُصفت أزمة لبنان الاقتصادية بأنها الأصعب منذ قرن ونيّف، ولا شك أن ما بين ذاك التوصيف وما وصل إليه الاقتصاد، مزيد من الإنحدار. الملفت في الأمر، تسارع الانهيار والهروب من المواجهة، ولو بحد أدنى من قرارات تفرمل عجلة السير إلى الهاوية أو تخفّف من سرعتها، لكن هذا لم يحصل، وكثيراً ما كانت قرارات الحكومة “خارج عن الموضوع”، ولم تعتبره أولوية.
بعض التنظير من موقع المراقب، حلّ محلّ الإجراءات الإنقاذية، والكثير من المتواطئين تركوا العنان لإجراءات “الحاكم” تفتك بالعملة الوطنية، بحيث تحول “سيّد المركزي” إلى ملك، حوله حاشية المضاربين الذين تحميهم السياسة وأهل السلطة بنفوذهم في أصقاع الإدارة المترهلة وتغلغل الخارج، وفي مقدمتهم الإدارة الأميركية مع أصحاب المراكز المالية والإدارية وغيرها، وصولًا إلى تشابك المصالح مع المصارف، وخطة حكم المصرف للسيطرة على قرار لبنان.
وقد نجح هذا المشروع، وسجل انتصارًا كبيرًا في حرب اقتصادية على لبنان تقودها الولايات المتحدة الأميركية ومعها دول غربية وعربية بتواطوء داخلي وتآمر سياسي وأكثر. والملفت حتى هذه اللحظة، أن الحكومة لم تحرك ساكنًا، ولا زال مجلس النواب مغرّدًا خارج سرب المسؤولية، في حين وقف القضاء عاجزًا بعد أن كبّلوه بالسياسة، وعطلوه على قارعة تناتش ما تبقى من هيبة الحكم في معركة اقتصادية يمكن تصنيفها على لوائح “الحرب القذرة”، سلاحها الحصار، وأدواتها قرارات، وجنودها من داخل الإدارة، أما جنرالها فحاكم المصرف المركزي، تجنّد فيها تجار أزمات، ومنظومة إعلام، وشاشات تبثّ القلق وتزرع اليأس وتسوق الاحتكار على حساب لقمة عيش المواطن بعد أن حرمته من جنى العمر بسطوها على الودائع المصرفية لتستكمل عملية الانقلاب وتمسك بالقرار السياسي في لبنان بعد أن عجزت عن فرض إرادتها بحروب صهيونية وإرهابية، ومهّدت لها مع قيام الجمهورية الثانية، بتحويل إقتصاد لبنان إلى ريعي يحكمه المصرف.
وفي مقاربة للأزمة الإقتصادية والغوص في جوهرها يتضح ما يلي:
- أزمة نظام طائفي يعاني خللاً سمح بانتشار ثقافة الفساد والهدر. وقد عاشت البلاد، وفي مقدّمتها القطاع العام، بقدرات تتجاوز إمكاناتها.
- نموذج اقتصادي يعتمد المديونية، رهَنَ الوطن للقطاع المصرفي.
- زيادة كبيرة في الدين العام أدّت إلى ارتفاع كلفة خدمته.
- تمويل مشاريع حكومية ضخمة. تأثير الاشتباك الخارجي والتوتر الإقليمي والحرب على سوريا.
- وقف التحويلات المالية الخارجية إلى لبنان ما ألزم “المركزي” بتكاليف باهظة.
وفي مراجعة السياسة المالية، يتبّن أن اقتصاد لبنان يعاني أزمة بدأت فعليًا مع “حراك تشرين”، حيث شهد لبنان وقفًا لتدفق الرساميل إلى الداخل، وارتفاع حاد في التحويلات إلى الخارج. وهنا مكمن الخلل، ما ترك لبنان في مهب أزمات متزامنة، كالتالي:
- أزمة في ميزان المدفوعات والعملة واتساع الفجوة بين عرض الدولار الأميركي والطلب عليه.
- أزمة في المالية العامة مع بلوغ العجز عشرة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وانهيار الإيرادات تحت وطأة الركود والأزمة المصرفية.
- تهاوى الإنفاق الحقيقي بعد التضخّم بعجز يصل إلى 3 مليارات دولار.
- أزمة النظام المصرفي بما أن القطاع المصرفي والديون السيادية اللبنانية بما في ذلك مصرف لبنان.
- تعثّر سداد قروض القطاع الخاص.
- معاناة المصارف من شحّ مالي.
أمام ما تقدّم، يقتضي الواقع خفض عدد المصارف وإيجاد آلية لتسديد القروض الأجنبية وإحصاء موجودات الدولة بهدف إعادة رسملة القطاع. كما تبرز الحاجة الملحّة إلى خفض أجزاء من الودائع الكبيرة ومبادلتها بأسهم في المصارف. ويبقى سعر الصرف هو الضامن الأساس للسلم الاجتماعي، ما يتطلب إعادة النظر بالسياسة النقدية وتثبيت سعر الصرف، وهذا لن يكون سهلًا، وحتمًا هو قرار موجع، ولا شك أنه يتطلب عقدًا اجتماعيًا جديدًا، إذ يسود الاعتقاد بأن هذه المقاربة إذا اعتُمدت فستمهّد الطريق إلى مستقبل أفضل يعمّه الإزدهار.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.