“الدونكيشوتيون” في لبنان ومعاركهم البائسة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

كثُرٌ همُ “السياسيون” الحمقى في لبنان ممن يعتقدون أنفسهم بأنهم في مهمّةٍ مقدّسة تمامًا كاعتقاد اللورد “دون كيشوت” بنفسه. “دون كيشوت” هذا كان يقضي أيامه بنهاراتها ولياليها يقرأ الأدب الفروسي ويصرف ماله على شراء هذه الكتب في هوسٍ غريب لأن يكون فارسًا لا يشقُّ له الغبار، يعيش الأوهام حتى الانفصال عن الواقع حتى بات يعتقد نفسه حاميًا للناس وناشرًا للعدالة بينهم ومدافعًا عنهم وساعيًا لإتمام مهمة عظيمة خلق لإجلها.

هؤلاء “السياسيون الدونكيشوتيون” امتطوا صهوات جيادهم المتهالكة وارتدوا بزات حربهم العتيقة البالية وامتشقوا سيوفهم الصدئة وراحوا يصولون ويجولون في ميادين “النضال” مع مرافقيهم البسطاء والسذّج ممن انطلت عليهم ألاعيبهم وحيلهم، يلقون إليهم بفتاتٍ لا يسمن أو يغني من جوع، وباتت لا تخلو منهم شاشة أو مذياع يتحفون من خلالهما المواطنين بأفكارهم ومواقفهم الكرتونية المجترة، شاشة بعد شاشة وصفحات إلكترونية ومنصات تواصل تلو الأخرى رافعين شعار الفيلسوف الشهير رينيه ديكارت “أنا أفكر إذًا أنا موجود”، ولذا تقمصوا هذه المقولة واتَّبعوها وعدَّلوها “أنا أشتم على الشاشات إذًا أنا موجود”، يزمجرون ويرعدون ويزبدون، يلوحون بتلك السيوف المهترئة المتآكلة، تنتفخ أوداجهم من الزعيق والنعيق ويخلقون لأنفسهم أعداءً وهميين يصارعونهم لزوم الصراخ والعويل والتصريح في الفراغ لا يسمعون إلا رجع صدى كلماتهم الجوفاء كمن يصارع طواحين الهواء والتي كانت سببًا في نهاية ذاك “الدونكيشوت البائس” الذي استفاق متأخرًا من أوهام جنون العظمة لديه. كما أضحى التافهون يحتلون شاشات الإعلام الضحِل والمأجور بكلِّ أشكاله يعظِّمون المخاطر من ذاك الآخر في الجهة الأخرى من الوطن ويهوّلون على بيئتهم ومجتمعهم وناسهم من ذاك الساكن في الشارع المقابل ليشعروه أنهم حماته “إذا دق الخطر ع البواب”، وجلهم كانوا قتلة ومجرمين وقطاع طرق وخاطفين للأبرياء وملقين بهم في أعماق البحار.

رهاناتهم واهمة وساقطة سلفًا وخاسرة بحكم التجربة في الماضي والهزائم التي منوا بها وما أكثرها، مشاريعهم التقسيمية والفدرالية وأحلامهم بالكانتون المسخ من “كفرشيما إلى المدفون” دفنت في مزابل التاريخ ووضعت الشواهدُ على قبورها، يتحفوننا بالسيادة وسلطة الدولة والقانون وهم يتلطون خلف زمرة ميليشاوية من فلول جماعات الخطف وفق المذهب والقتل على الهوية إبَّان الحرب المشؤومة ويمارسون الأمن الذاتي بأبشع صوره وبعضهم يدَّعي أنهم جندٌ للرب وهم خريجو مدرسة الشياطين وجنودهم، يستدرون عطف الخارج تدويلًا وهيمنةً وينبشون من جديد مقابر الأوهام بروائحها العفنة والنتنة ويمنّون النفس بأضغاث أحلامِ العودة للاقتتال الداخلي وسفك الدماء، يبشروننا بالسحل مربوطين بالحبال خلف السيارات وبالشنق على أعمدة الطرقات في استعادة لارتكاباتهم الحاقدة والإجرامية أيام الحرب الأهلية في العام 1975 وما بعدها بتحريضٍ من الأمريكي والإسرائيلي، وخلفهم ومعهم وإلى جانبهم بعض من دول النفط العربي والرجعي، لا فرق بين راعيهم وبينهم أكان زعيم حزبٍ مدّعي القداسة والحكمة دونكيشوت “معراب” أم أزلامه من الوزراء والنواب ومسؤولي حزبه الطوباويين على دروب العفَّة المدنّسة برذائلهم، إلى قضاةٍ تفوحُ منهم رائحة الفساد والاستزلام والرشوة يؤازرهم إعلامٌ سفيه ومأجور يبث سمومه وأحقاده ومواقفه غبَّ الطلب ووفقًا للثمن.

والله إنَّ هؤلاء التقسيميّين الحمقى جميعًا يقدِّمون للقوى الوطنيّة السياديّة الحقيقيّة خدمةً جليلة والفرصة تلو الفرصة للتغيير وعلى طبقٍ من ذهب، يمشون بخطىً سريعة نحو عقد تأسيسي جديد للبلاد ولكن للأسف على نارٍ حامية ستحرقهم قبل الآخرين. نعم نحن مؤمنون وبصدقٍ وما زلنا على تمسكنا بالعيش المشترك والوحدة الوطنية وحماية البلد من الانقسامات والحرص على سيادته والدفاع عنه وتقديم الأرواح في سبيل استقلاله، هكذا علّمنا إمام التعايش الإسلامي – المسيحي والوطني الإمام المغيب السيد موسى الصدر (أعاده الله سالمًا) وهذا ما يصرُّ عليه قابضًا على جمر التلاقي والتواصل والتفاهم بصبرٍ وبصيرة الأمين المؤتمن (حفظه الله).

ولكن، ما أعتقده أنَّ خياراتنا يجب أن تكون مفتوحة في وجه تلك التهديدات على الرغم من “هزالتها وتفاهتها” وتحويلها عند الضرورة إلى فرصة لعقدٍ وطنيٍّ ولبنانيٍّ جديد يعيد تكوين السلطة فيه على قواعد وأسس متينة تحفظ فيه حقوق جميع أبنائه متساوين في المواطنية والمسؤوليات والواجبات في الدفاع عنه وحمايته وحفظ عناصر قوته ومنعنه بعيدًا عن الارتهان للخارج واستضعاف الآخر والفوقية تجاهه وتوهينه والطعن بظهره في الداخل.

اعلموا يا هؤلاء أنَّ رهاناتكم الفاشلة وخياراتكم الخاسرة هي التي أوصلتكم إلى هذا الدرك الأسفل من السياسة والإدارة وحتى بإمساك مفاصل الدولة ومقدرات البلاد وفق الصيغ البائدة المتناسلة منذ العام 1943 مرورًا بالأعوام 58 و 75 و 82 و 90 وحتى يومنا هذا، هذه جميعها ولَّت إلى غير رجعة ولن تعود بإذن الله.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد